Saturday, November 04, 2006

الأفوكاتو : لعبة الفساد


أعود للكتابة عن السينما بعد شهرين تقريباً من الانشغال بالدراما التليفزيونية ومولدها .. اليوم أحاول إلقاء الضوء على فيلم مصري قد لا يعيره معظمنا التفاتاً رغم مرور اثنين وعشرين عاماً على عرضه لأول مرة في صالات العرض المصرية .. لكنه أحدث من المشاكل والأزمات ما وصل إلى ساحات المحاكم .. ولا يزال يطرح في كل عرض على شاشات الفضائيات أسئلة بالجملة.. إنه فيلم الأفوكاتو (1984) ..

تحيز النقاد أكثر -نسبياً-لـ"عيون لا تنام" على حساب "الأفوكاتو" ، في الوقت الذي أرى فيه العكس ، فالأفوكاتو أرخ لمرحلة جديدة في مسيرة رأفت الميهي اتجه فيها نحو الفانتازيا الصارخة في معظم أفلامه التالية باستثناء "للحب قصة أخيرة".. .. كما أنه من أوائل الأفلام التي تطرقت للعبة الفساد في المجتمع المصري بشكل موضوعي .. بعيداً عن العاطفية التي سادت أفلام الانفتاح قبل الأفوكاتو وبعده..

اللعبة بسيطة ، لاعبوها فاسدون "تايكونات" ، وفاسدون كبار "أصغر قليلاً" ، وفاسدون من صغار الموظفين في الجهاز البيروقراطي المصري ، وبينهم يلعب الجوكر ، الداري بقواعد القانون ، الذي يتم الفساد في حمايته.. مواصفات الجوكر بالطبع لم تتوفر إلا في محامي .. وهذا ما أثار سخط المحامين على الفيلم بشدة..

الجوكر في الفيلم هو عادل إمام ، شخصية "حسن عبد الرحيم الشهير بحسن سبانخ" .. محامي يعشق اللعب مع الفاسدين ، لا حباً في الثروة والسلطة (كبطل فيلم "حتى لا يطير الدخان" .. لعب دوره عادل إمام أيضاً) .. ولكن لسبب بسيط وغريب .. حبه في اللعب والمغامرة ..ربما قبلته كمشاهد أكثر مثلاً من شخصية "سيد أوبرا" في مسلسل "أوبرا عايدة" الذي اصطنع فيه المؤلف بطلاً من محامي يعطي حقن الماكس فورت.. في الوقت الذي لم يتصنع فيه سبانخ البطولة ولا المثل العليا .. مجرد أفاق يعشق اللعب للعب..

يدخل "سبانخ" السجن بإرادته ، ولا يتوان بغرابة شديدة عن التسويق لنفسه حتى في داخل سيارة الترحيلات التي تقله إلى هناك ، حيث تبدأ أحداث الفيلم فعلياً ..وهناك يحتك باللاعبين الآخرين ..

الأول هو "حسونة محرم" - لعب دوره حسين الشربيني ، فاسد من الذين طفوا على السطح في السبعينيات عن طريق صفقات الفراخ الفاسدة وخلافه ، والثاني ، وهذا هو الجديد ، أحد مراكز القوى السابقين "سليم أبو زيد" - لعب دوره صلاح نظمي ، وللشخصية مغزى عميق ، إذ أن هذا الصنف من الفساد الذي وضع في السجون في بداية العهد الساداتي ، وجد نفسه معرضاً للخروج مرة أخرى إلى المجتمع في أيدي صنف من الفاسدين على طريقة "حسن سبانخ"..حتى وإن كان استنتاجي خاطئاً بأن الفيلم يدور في الحقبة الساداتية ، فإن المراقبين يرون المرحلة الحالية كامتداد لمرحلة السادات ..فكرة خروج "أبو زيد" إذن هي انقلاب تلك المرحلة على نفسها!

لاعب قصير الدور لا يقل أهمية ولا عمقاً .. علي الشريف .. صول السجن البسيط "الشاويش عبد الجبار" الذي يعطي خدماته لمن يدفع أكثر ، فالشاويش ، والرتب الصغيرة عموماً ينظر لها من جانب البسطاء على أنها "الحكومة" بكل ما تحمي الكلمة من معنى (ولذلك يكون إحساسها بالسلطة أضخم من إحساس بعض الرتب الأعلى) ، ودعمها الميهي بتسميته "عبد الجبار" الفظ الغليظ على "عامة المساجين"، هو ببساطة أحد الصغار ، التروس الصغيرة في ماكينة الفساد التي تدور بسرعة أكثر من التروس الكبيرة (كما تعلمنا في التعليم الرابسوي)، فلولاه، ولولا أمثاله ، لما وجدنا زنزانة "سليم أبو زيد" الخمس نجوم ، والتي قدمها الميهي لأول مرة في الدراما العربية لتصبح نموذجاً مكرراً لزنزانات كبار الفاسدين في السجون في المسلسلات والأفلام المصرية (آخرها على الأقل "واحد من الناس").. ولأن عادل إمام صار في حماية سليم أبو زيد ، ولأنه "من جاور السعيد يسعد" ، قدم الميهي أفضل مشاهد الفيلم ممثلة في عادل إمام في البانيو ، كأنه في المصيف تماماً ، ومن حوله الصول -علي الشريف- وهو يقلد باعة "الكلو كلو" على الشواطئ في الصيف.. كأن السجن الذي كان يتزاحم الكل على دخول دورة المياه فيه قبل لقطات تحول إلى مصيف ، يقوم فيه صغار الفاسدين بدور الخدم والحشم للفاسدين الكبار..

لا يتورع "سبانخ" عن اتباع كل السبل لإتمام ألاعيبه مع "سليم أبو زيد" و "حسونة محرم".. بما فيه الزج بشقيقته "لعبت دورها إسعاد يونس" المتزوجة من مدرس تربية رياضية عمل سابقاً بإحدى دول الخليج لعب دوره محمد الشرقاوي ..واصطناع كونها متزوجة من "حسونة محرم"!..فيما بعد يزداد الموقف تأزماً بعد أن يتمسك "حسونة محرم" بها على حساب زوجها!

لعب الميهي بإتقان على فهمنا لكلمة "تهريج"..فعندما نتكلم في جلساتنا العادية عن الفساد وعربدته نصل للقول بأن هذا "تهريج" .. كلمة لها معنى آخر له علاقة بفاصل من الحركات والمواقف الغريبة تدفعك للضحك .. وعليه فقد غلف الفيلم كله بمهازله في إطار "تهريجي" يتعدى حدود الواقع .. ففي الأحوال العادية لا تصدق أن محامياً يدخل السجن عامداً متعمداً ، ويوزع كروته على مساجين سيارة الترحيلات ، أو أن تصدق أن محاكمة تدور بهذه الطريقة العجيبة .. لكن في الفانتازيا كل شيء جائز ، خاصة عندما تعيش في واقع يفوق الفانتازيا غرابة!

ويضرب رأفت الميهي التوقعات في اختياره لنهاية الفيلم ، إذ أنه في الوقت الذي ينقلب فيه السحر على الساحر ، ويدخل "أبو زيد" و "محرم" "حسن سبانخ" السجن معهما بعد أن ضاقا ذرعاً بألاعيبه ، ويتوقع الجميع أن ينعم الثلاثة معاً بسجن سعيد يكسرون فيه الأحجار بالمعاول (لوحة الأشغال الشاقة المستخدمة في أفلام عربية عدة)، يكون "سبانخ" قد أعد للعبة أخرى يهرب فيها بصحبة "سليم أبو زيد" .. بعد أن يتمكن من إقناع عسكري الحراسة وزميله بالتخلي عن زيهما "الميري" لتسهيل عملية الهرب .. ويفرح العسكري البسيط بشدة لفرصة السفر إلى ليبيا لتحسين أحواله .. أما علي الشريف .. فيشرب في سعادة غامرة "السيجار الكوبي" الخاص بـ"سليم أبو زيد".. السيجار الكوبي الشهير بـ "صباع الكفتة" هو أحد الرموز المستخدمة لعلية القوم ولصوص الانفتاح خلال أفلام تلك الفترة .. لعل تلك اللقطة تُفَسَّر من قبل البعض على أنها ترمز لتطلع "الصول"، الرتبة المتواضعة ، إلى أن يكون مثل من يشربون هذا السيجار ليل نهار..رغم أن هذا النوع من الفاسدين يستفيد أكثر من كونه صغيراً (متدارياً) لا تلمحه عيون الأجهزة الرقابية..

في اثنين وعشرين عاماً من الزمن رفعت القضايا على الفيلم ومنتجيه ، وبدأت خصومة عنيفة بين عادل إمام ومرتضى منصور .. أصبح عادل إمام نجماً للشباك قبل ظهور هنيدي ورفاقه .. واصل الميهي العمل إلى أن ضاقت به الأرض وواجه الإفلاس .. اعتزلت إسعاد يونس التمثيل لفترة عادت بعدها كواحدة من أكبر منتجي السينما الحاليين .. وتغير المجتمع رأساً على عقب .. لكن اللعبة لم تتغير.. لأنه في حقبة ما بعد السادات لم يفعل أحد شيئاً يخترق به تلك الحلقة "التكافلية" بين صغار الفاسدين وكبارهم..

لم تنته اللعبة بعد.. باختصار شديد..
* الصورة من موقع قناة إيه آر طين للأفلام ، ويحسب لهم أنهم قدموا في هذا الرابط ملخصاً وافياً لأحداثه قد يجبر أي نقص في المعلومات التي أوردتها هنا..
بالمناسبة هناك اختلاف في سنة الفيلم ، منهم من يقول أنها 1984 ، أو 1983 ، أو 1981.. أميل نسبياً للرقم الأخير!

8 comments:

محمد أبو زيد said...

الفيلم لسه شايفه النهارده ، ومكتوب عليه إنه 83 ، وبالمناسبةالفيلم ده بغض النظر عن أنه للرائع رأفتالميهي ، إلا ا،ه كمان من اجمل أفلام عادل إمام عشان يمكن ساب نفسه فيه للسيناريو الساحر ،والمخرج يخرج بجد

Ossama said...

تحليل رائع يا شريف
وشغل جامد جدا اشكرك

قلم جاف said...

الله يخليك يا دكتور أسامة .. ودايماً منورنا..

الأستاذ محمد :

سبب روعة الفيلم إن عادل إمام ما وصلش لسة لنجوميته اللي وصل لها في أواخر الثمانينيات!

السبب إنه كان "أكثر انضباطاً" في تعامله مع المخرج وتنفيذه للتعليمات بحذافيرها وبدقة متناهية ..

خير دليل على دة مشهد من "ميكنج" أمير الظلام بيعطي فيه تصوراته كما لو كان المخرج الفعلي!

صحيح إن عادل إمام استفاد من أفلام الانفتاح من عينة "أنا اللي قتلت الحنش" ، "حتى لا يطير الدخان" ، "رمضان فوق البركان" ، وغيرها ، لكنه برضه استفاد من الشغل مع الميهي في الأفوكاتو ومحمد خان في الحريف .. كسب المثقفين على الأقل قبل ما يتضخم وتصبح ذاته أضخم من تصورات المخرج وأفكاره..هذا والله أعلم..

زمان الوصل said...

بالنسبة لى من المشاهد التى لا تنسى فى فيلم الافوكاتو مشهد حسن سبانخ و هو يمر كل يوم فى مستنقعات المجارى التى كانت تملا كثير من شوارع مصر فى تلك الفتره !! تأريخ رائع للمرحله بدون كلام كتير ..

كذلك سؤال اخته لكل من يملك مالا "انت سافرت ليبيا"؟ و قد تكون السعوديه لا اتذكر بالظبط لكنه كان سؤال عفوى جدا اضطر شقيقها سبانخ للرد عليها ذات مره : هو كل واحد معاه فلوس يبقى سافر ليبيا !! فى اشاره بسيطه و سريعه لتأثير الهجره للدول العربيه فى بدايات عصر الانفتاح على الطبقه الوسطى بمصر المحرومه "المحروسه سابق"

قلم جاف said...

هي ليبيا بالفعل ، وإن كان زوج عصمت (الراحل محمد الشرقاوي) كان يعمل مدرساً بالسعودية بحسب مقاطع من حوار الفيلم نفسه..

أما عن المجاري ، تلك ملاحظة جيدة ، وتكررت في فيلم محمد خان "خرج ولم يعد" ، وفي فيلم عادل إمام "رمضان فوق البركان" تحديداً لوحات تتحدث عن قاهرة الثمانينيات..

saso said...

تحليلك رائع.. كالعاده أو اكثر
انا مع الرأي بان عادل كان افضل واكثر التزاما او اقل تشويها للنص واكثر قبولا لفكرة وجود اخرين بالفيلم.. مش اقمار بتدور حولة كما الان.. يمكن لانة كان لسه ماتدلعش من النقاد والمشاهدين والمنتجين والرقابة
الرقابة.. لعبة عادل الشهيرة اللخبطة زي ماهو عاوز في اول الفيلم.. جلد الذات في المنتصف علي اساس اننا اللي غلطانين مش الحكومة اللي كان بيهاجمها كليه ويكاد يحملها الخطا كاملا في الجزء الاول.. والطبطبة في الثلث الاخير.. علي اساس ان دي مصر واحنا مسؤلين ومش عارف ايه.. واغنية لو مسرح.. او جرية كاميرا لو فيلم ويعدي من الرقابة
اشارات ثمانينية عدة.. احبها في الفيلم
المدرّسة اللي بتحضر الخضار في الفصل.. بينما تقول العمل شرف او شعار مشابة مش متاكده
حتمية السفر للزواج ولاي رفاهية ان كانت حتي ارتبطت باي مظهر رفاهية.. انت سافرت ليبيا؟
العجلة الأبدية.. حلم الصبي اللي كبر عليها في الواقع
جنون رأفت ومبالغاتة الذكية جدا اللي تخليك تقول والله ممكن تحصل
وده اروع مافي الميهي مبالغات فظيعة بس مقبولة
لا تعليق علي شخصيات الاشرار لانك اوفيت فلا مجال لكلمة

السهروردى said...

الفيلم من الروائع فى نظرى
وأنا أشكرك على البوست ده وعلى اهتمامك بالفيلم

أولا: رأفت الميهى فى أفلامه الفاتنازيه "الأفوكاتو" و"سمك لبن تمر هندى" أختار الشخصيتين الرئيستين بنفس الإسم حسن سبانخ

ثانيا : فترة الثمناينات كانت فترة إبداع رأفت الميهى عموما من أفلام مختلفه "الأفوكاتو" و"السادة الرجال"و
"سيداتى آنساتى"
و"للحب قصه أخيرة"

ثالثا : بعتبر الحوار الفيلم أكثر من رائع
لدرجه أنى عايز أقتطع مشهد حوارى بين عادل إمام ويسرا فى أوضه النوم وأنشره
رابعا : كويس ان فى حد فاكر مسلسل" أوبرا عايدة" لأنه هو احسن مسلسلات الفخرانى بعد "ليالى الحلميه"فى رأيى

أشكرك مره تانيه على تحليل الفيلم

قلم جاف said...

السهروردي ضيف الفرجة :

أولاً خطوة عزيزة في المدونة ، ونتمنى تكرار الزيارة والتعليق..

في سمك لبن تمر هندي افترض الميهي أنه شبه جزء ثان من الأفوكاتو، فمحمود عبد العزيز هو شقيق حسن عبد الرحيم (سبانخ) بطل الأفوكاتو والذي يدفع ثمن مغامرات شقيقه ..جرعة الفانتازيا كانت أعلى بكثير في الفيلم الأمر الذي لم يعط الفيلم نفس قبول الأفوكاتو ، رغم أن محمود عبد العزيز كان وقتئذ في مجده..

أوبرا عايدة ليس في رأيي أحسن مسلسلات الراحل أسامة غازي ، ولم يقنعني تحويل غازي لسيد أوبرا إلى بطل ، على العكس من الأفوكاتو الذي تستفيد منذ بداية العمل حتى نهايته أنه أفاق .. وخلو الفيلم من المثالية المفرطة هو أحد أسباب جاذبيته..

أفضل مسلسلات غازي في رأيي هو "السرداب" الذي كتبه عن نص للواء محمد عباس منصور وإخراج صفوت القشيري ، و"منع ضمناً" من العرض في مصر ، المسلسل يتناول حياة تاجر مخدرات سيناوي "عواد أبو جرير" لعب دوره بروعة صلاح السعدني يتعاون مع الاحتلال الإسرائيلي بعد حرب 1967 ويحاول اصطناع تاريخ وطني له!.. القاسم المشترك بين السرداب وحدائق الشيطان هو كون أسامة عباس هو الساعد الأيمن لتاجر المخدرات في المسلسلين!

ساسو :

شكراً للمجاملة الرقيقة ، هذا أولاً..

ثانياً .. أعجبتني كلمة "ثمانينية"..جاءت في محلها تماماً..الفيلم فتح برأيي عيناً على السنة الوحيدة التي عاشها السادات في الثمانينات ، وعلى بداية الربع قرن الأخير..

أما كيف أصبح عادل إمام شجيع الانفتاح، وكيف ربما وصل لتلك المرحلة التي ذكرتِها في تعليقك.. تلك قصةأخرى تغريني بالكتابة بإذن الله في وقت قريب عن عادل إمام!