Thursday, April 02, 2009

فوق الشجرة


ثاني تدوينة أكتبها عن "عبد الحليم حافظ" منذ عامين إلا يومين .. قد يكون من نافلة القول تكرار ما قلته في ذلك الوقت ، لكن شيئاً خطر على بالي فكرت في المرور عليه في هذه السطور..

يدخل في ضمن علاقتنا الغريبة الشكل بالموت فكرة البحث عن أي شيء من ذكرى الفقيد ، تقليد قديم قدم مصر نفسها في تصوري المتواضع .. ولا زلنا نمارسه مع كل من نحبه بحق ، أو ننتفع به.. لكن جماعة المنتفعين عادةً هي من يعيد إحياء هذا التقليد من حين لآخر ، منتهزين وجود من يحبون الفقيد أو يعيشون على أطلاله أو يبحثون عن بطل في زمن تطاول فيه الأقزام في البنيان..

وقت أن كنت في الجامعة ، ووقت أن كان كل العالم بالنسبة لي هو التليفزيون الرسمي ، ظهرت لفترة فكرة البحث عن أي شيء من "ريحة" "عبد الحليم حافظ" وتحديداً آخر أفلامه "أبي فوق الشجرة".. بدأ الأمر تلميحاً عندما أكد المنتفعون أن "عبد الحليم حافظ" هو الأب الروحي لـ"الفيديو كليب" مما دفع بعضهم لإقناع "حسين كمال" مخرج الفيلم بعمل كليبات لأغاني الفيلم من مشاهد الفيلم .. ثم دخل إلى مرحلة التصريح عندما ظهر من يقنعنا بفكرة إذاعة الفيلم الذي لم يعرض على التليفزيون المصري الرسمي على الإطلاق بينما تلقفته فضائيات عربية أخرى .. واستهجن البعض من المنتفعين وغير المنتفعين فكرة أن رقابة التليفزيون "تتشدد" في رفض عرض الفيلم الذي يرى فيه البعض - وبغرابة شديدة - أنه لا يوجد به ما يستحق المنع..

الفيلم الذي كنت قد شاهدته على "أوربيت" أثبت أن لكل قاعدة شواذ ، وأن شواذ القاعدة والذي ثبتت صحته هو أن جهاز الرقابة في التليفزيون المصري كان لأول مرة على حق.. وأن إذاعة الفيلم على التليفزيون الرسمي عمل أحمق.. لأسباب سيلي ذكرها بعد قليل..

الفيلم مأخوذ عن قصة لـ"إحسان عبد القدوس" الذي حظي بعد وفاته قبل تسعة عشر عاماً بفرقة من المنافقين تفوق ربما فرقة المنتفعين بـ"عبد الحليم حافظ" نفسه ، وفكرته تدور حول قصة شاب جامعي -لعبه "عبد الحليم حافظ"- يقع في حب زميلته -لعبتها "ميرفت أمين"- إلى أن تدخل راقصة - لعبتها "نادية لطفي"- على الخط وتنصب شباكها عليه وتأخذه إلى "سكة الضياع" .. فما كان من الأب -لعبه "عماد حمدي"- إلا أن يحاول البحث عنه ، وهناك يقع هو الآخر في شباك إحدى بنات الليل ..

صحيح أن الفيلم استعراضي بامتياز ، وحقق إيرادات كبيرة ، وأشاد به المنتفعون وغير المنتفعين على غير ما يحدث مع أي فيلم يحقق إيرادات كبيرة ، لكنه في رأيي أسوأ أفلام "عبد الحليم حافظ" على الإطلاق .. نعم قدم "عبد الحليم" ممثلاً عدداً من الأفلام يتنوع بين الدراما -"الخطايا"- والكوميديا الخفيفة -"فتى أحلامي" و "ليالي الحب" على سبيل المثال- إلا أن تلك الأفلام وبخاصة "اللايت كوميدي" كانت مقنعة فنياً بنظري كمشاهد غير متخصص ، أفلام بسيطة لها هدف واضح نجحت في تحقيقه وربما يصعر لها كتبة الأعمدة خدودهم إذا ما تم عمل ما يدور في فلكها هذه الأيام .. ولكن في حالة "أبي فوق الشجرة" أراد الكل التغيير ، وأخفق الجميع..

أراد "عبد الحليم" أن يظهر بوجه مغاير وبديل لما عودنا عليه من أدوار في كل ما مثل من قبل ، وأراد "حسين كمال" أن يخاطب شريحة أوسع من الجمهور في فترة ما بعد 1967 بحسب الكاتب "حسن حداد" ، ووجد الاثنان ضالتهما في قصة ضعيفة مهلهلة فشلت أغاني الفيلم في إخفاء نقاط ضعفها.. لكنها صنعت خلطة ربما كانت مطلوبة تجارياً ، وسياسياً.. تحمل على أفيشاتها أسماء "عبد الحليم حافظ" و "عماد حمدي" و "نادية لطفي" و قصة "إحسان عبد القدوس" وشبح "حسين كمال".. وضعوا عدة خطوط عريضة تحت شبح "حسين كمال" ..

عدم عرض الفيلم في التليفزيون المصري الرسمي ذي الجماهيرية الأعرض بكثير من جماهيرية السينما كان "مصلحة" لـ"عبد الحليم حافظ" .. فأشد محبي "العندليب" -لست منهم-كانوا ليستغربون من اختياره لفيلم كارثي لو استبعدت منه الأغاني ، و من أن تقدم مجموعة من الأسماء الكبيرة شيئاً بهذا السوء ، أو من قبول "عبد الحليم" وضع عدد من أفضل أغانيه على أسوأ فيلم مثل فيه (خاصةً وأن الفيلم من إنتاج الشركة التي يمتلكها "عبد الحليم" مع آخرين).. وأشد كارهيه -ولست منهم أيضاً- يرون أن عدم العرض أنقذه من أن يراه الناس بصورة تتنافى مع الهالة التي صنعت له ، بما أن جمهور التليفزيون "أكثر حساسية" لما يتعلق بما اشتهر الفيلم من أجله -مش الأغاني طبعاً- من جمهور السينما (وإن كان كارهو "عبد الحليم" ليقولون نفس الشيء إن مارس الرجل حقه المشروع في تمثيل أدوار الشر في أي فيلم*)..

الكل سيستغرب حتى من علاقة الفيلم بـ"الشجرة" .. لكني أرى أن "الشجرة" هي التي كان العندليب ليسقط من فوقها لو أن ذلك الفيلم قد عرض تليفزيونياً.. حتى أن الفضائيات التي اشترته "استخصاراً" لا تقبل على عرضه .. أغاني الفيلم بقيت في ذاكرتنا .. أما سيرة الفيلم نفسه فذهبت إلى حيث تستحق..
* تفادى المطربون الذين ظهروا في الأفلام الموسيقية المصرية القيام بأدوار الشر خشية من أن تؤثر على شعبيتهم .. وكان لذلك ما يبرره في ضوء السائد لدى متابعي السينما لفترات طويلة.. حيث كان المتفرجون أكثر حساسية تجاه أدوار الشر ومن يمثلونها رغم أن منهم أسماء في ثقل "زكي رستم" و "محمود المليجي" و "توفيق الدقن" .. بل إن "عماد حمدي" تحولت شعبيته من النقيض إلى النقيض لأنه لم يكن معادياً لـ"عبد الحليم" فحسب في "الخطايا" .. بل أيضاً بسبب الصفعة الشهيرة جداً في الفيلم!.. الصورة من موقع amman dj للقطة مواجهة "عبد الحليم" لأبيه "عماد حمدي" في نهاية الفيلم..الظريف في الموضوع أن تلك القناة تحديداً هي التي شاهدت عليها الفيلم المذكور إن لم تخنّي الذاكرة!

2 comments:

blackcairorose said...

ولكن اذا كانت الخلطة من الميلودراما والكوميدي والاستعراض والاغاني والنجوم المحبوبة حققت لابي فوق الشجرة نجاح غير مسبوق ايامها، ما الذى يمنع انها ستحقق نفس المتعة للمشاهدين في منازلهم الآن؟؟

اعتقد انك لا تعني بالتأكيد أن ذوق الجمهور تطور، الذوق قد يكون اختلف الى حد ما، ولكنه بالتأكيد لم يتطور

اضافة الى اننا كجمهور مصري حين نشاهد فيلم ما قديم، ندرك فطريا ان السياق التاريخي للفيلم يفرض نوع تقييمنا له، فلا نقول ان حسين رياض يبالغ وانفعالي فى دور الاب في رد قلبي، ولا أن سعاد حسني هى نسخة من مشروع فتاة ليل فاضلة في خلي بالك، ولا ان فريد الاطرش يصلح لدور الجد وليس حتى الأب لميرفت أمين فى آخر افلامه

كل هذه الافلام وعشرات غيرها نشاهدها ونحن قاعدين متربعين على الكنبه بنشرب الشاي او الدوريتوز وبنشوف الحلو في الخلطة السينمائية اياها ونترحم على عظمة فنانين زمان

منذ متى يقيم المشاهد المصري للتليفزيون أي فيلم يشاهده ـ دون أن يمثل نجاح الفيلم او فشله حين كان يعرض في السينماـ عاملا رئيسيا فى تقييمه الحالي للفيلم عند عرضه على التليفزيون؟؟

تحياتي

قلم جاف said...

لنتفق على أن فهم ظروف الفترة التي تصنع فيها الأفلام يساعدنا على "تفهمها".. لسنوات طويلة ظلت السينما المصرية فناً للهواة والمغامرين ، وتحكمت في كتابة الأفلام بكل طرزها حيل وأساليب راجت في المسرح على سبيل المثال وأثر ذلك على التمثيل وأحياناً على الكتابة والإخراج ، إلى أن ظهر مخرجون دارسون بدأوا في طرح وتقديم بصماتهم..

لذلك أرى العديد من أفلام اللايت كوميدي والرومانتيك كوميدي خلال عصور طفولة السينما في مصر جيدة وبعضها ممتع..

هنا أتكلم عن الظروف..

وبالنسبة لـ"أبي فوق الشجرة" فلابد من تفهم "كل" الظروف التي جعلت فيلماً اشتهر بقبلاته أكثر من أغانيه يحقق كل هذا النجاح في فترة زمنية سياسية جاءت بعد 1967..

أرى أن "أبي فوق الشجرة" متواضع حتى بمقاييس وقتها ، لكنه نجح ، ورأى الدراويش أنه طالما قد نجح فهو تحفة (عكس الآن حيث يعد نجاح الفيلم تجارياً دليلاً على هبوط مستواه فكل تجاري بدعة وضلالة).. مش شرط..

هنا أتفق معكِ على أن نجاح الفيلم تجارياً في فترة زمنية سابقة لا يشترط أن يتكرر اليوم ، ولا يجب أن يؤثر على حكمنا عليه ، وإن كنت أرى أن معرفة الظروف المصاحبة لكل عمل فني مهمة لـ"تفهمه" وقد لا تبرر حكمنا عليه..

بالمناسبة .. "باب الحديد" فشل تجارياً في وقته وتحول إلى تحفة سينمائية ، بينما "العصابة" قال الناصريون عنه أنه "كسَّر الدنيا" في الوقت الذي يجبرني حين عرضه في الفضائيات على تكسير التليفزيون كلما قررت قناة فضائية في لحظة غباء تعذيب المشاهدين بعرضه..

عذراً للإطالة..