تحت نفس الشمس.. فوق نفس التراب..كلنا بنجري ورا نفس السراب..كلنا من أم واحدة ..أب واحد ..دم واحد .. بس حاسسين اغتراب-تتر المسلسل..
"أسامة أنور عكاشة" هو أفضل من يكتب "جزء أول".. لكنه لا يوفق أحياناً في "الثاني"..تجلى ذلك في "الشهد والدموع" و"ليالي الحلمية"..والفرق بين الاثنين هو أنه كان من الممكن أن ينهي كل شيء في "ليالي الحلمية" بفينال رائع ، على العكس من الحال في "الشهد والدموع" الذي كان من الحتمي - لضرورات تتعلق بعلاقتنا بالدراما- أن تكون له تكملة ، أقله لإشباع فضولك عما سيفعله هؤلاء الأشخاص في الجزء الثاني.. وربما كان سر نجاح الجزء الأول هو أن "أسامة" "بياخد راحته" في كتابته بلا ضغوط ، بالسرعة التي تريحه ، بالإيقاع الذي يريحه.. أما في الثاني فالكاتب مقيد بمواعيد ، وموزعين ، وممثلين ، وفنيين ، وحسابات أخرى..
كلا الجزئين الأولين للمسلسلين كان مقدمة قوية ، حجر أساس لما تلاهما .. وإن كانت حالة "الشهد والدموع" كانت أكثر تميزاً وتأثيراً على "أسامة" نفسه ، واستفاد بها بكل تأكيد في "ليالي الحلمية" بعدها بخمس سنوات..
في "الشهد والدموع" قرر "أسامة أنور عكاشة" ومعه "إسماعيل عبد الحافظ" عمل "دراما شعبية" لا تجري أحداثها فقط في بيئة شعبية ، ولكن تحمل في طياتها تيمات قريبة مستوحاة في معظمها من التراث الشعبي ، أو على الأقل تشعر بأنك قد رأيتها من قبل فيه..كما سيتقدم..
باختصار.. تدور أحداث المسلسل حول "رضوان" (=لعبه بشكل مميز "حمدي غيث")صاحب سلسلة محلات حلويات ضخمة له ثلاثة أبناء.. "حافظ" (=لعبه "يوسف شعبان") و "شوقي" (=لعبه "محمود الجندي") و "إحسان" (=لعبتها "رجاء حسين").. ولأن زوجة "رضوان" توفيت فتزوج من أخرى (لعبتها "جليلة محمود") وأنجب منها ولداً (="عبد العزيز مخيون" في الجزء الثاني)..و"رضوان" الأب لا يخل من أمراض الثروة والسلطة التي جعلته يصنع مجداً على عظام شريكه السابق ليكون تجارته الضخمة ، وليرتب علاقته بأبنائه بالشكل الذي يحفظ ثروته له، ليُعاقَب قدرياً بأن يرى أبناءه الثلاثة في حالة صدام عنيف .. "حافظ" التاجر الطامح إلى الاستيلاء على الثروة ، و"شوقي" الأقرب إلى الفنان بفوضويته وطيبته الزائدة التي تصل إلى حدود السذاجة ، و"إحسان" التي تأخر بها العمر إلى ما بعد السن "التقليدي" للزواج ..
من حسن حظ المشاهد أن جاء المسلسل في فترة الثمانينات ، حيث المسلسلات لا تزيد كثيراً عن الخمس عشرة حلقة إلا فيما ندر ، وهو ما أحسن "أسامة" استغلاله ، فبدأ بالدخول في الموضوع مباشرة وبسرعة ، وأشعل الصراع في ثلاث محطات.. الأولى إنجاب الأخ الثالث بما يربك حسابات التركة بالنسبة لـ"حافظ" ، وفي الثانية يجن جنون الأخير عندما يعلم بأن الأب سيعطي حصة من الثروة لـ"إحسان" تعويضاً لها عن تأخر زواجها ، وفي الثالثة تزداد الأمور اشتعالاً بإعلان "شوقي" التحدي بالزواج من "زينب" (="عفاف شعيب") ابنة "جعفر" (=لعبه أولاً"أحمد الجزيري" في الجزء الأول وحل بعده لرحيله "عبد المنعم إبراهيم" في الجزء الثاني) رئيس عمال "رضوان" لعدم التكافؤ ، خاصةً وأن "حافظ" متزوج من "دولت"(="نوال أبو الفتوح") ذات الأصول التركية وبالتالي فإن وجود "زينب" وسط الأسرة لا يتناسب مع ما وصل إليه "رضوان" الأب من ثروة..يتوفى الأب ، وتمر الأحداث إلى أن يصبح الصراع مباشراً بين "حافظ" و "شوقي" على المحلات ، ويدبر الأول له عدداً من المؤامرات يجبر فيها الثاني على بيع حصته في المحلات..
"حافظ" تاجر كما يصفه "رضوان" نفسه في جملة حوارية ..يحسب كل شيء بالورقة والقلم ، لكن ماديته جعلته -عكس تجار كثر- على استعداد لفعل أي شيء ، أي شيء ، من أجل الاحتفاظ بثروته ، صحيح أنه كأبيه يتنازع بداخله الخير والشر ، لكن وجود صديقه "مختار" (="صبري عبد المنعم") وزوجته "دولت" كانا كافيين تماماً لجعله يمضي في خطة غدره بأخيه.. صحيح أنه لم يعلم بأن "مختار" دبر لـ"شوقي" خطة ينقض فيها بلطجية عليه ليسرقوا منه ثمن حصته في المحلات ، ليموت لاحقاً بحسرته ، لكنه كان يريد ذلك في قرارة نفسه ، كل ما حدث أنه وجد أحد الشياطين الذي حقق له حلمه..على جثة أخيه ، وحقوق أولاد أخيه..وبفضل "مختار" و "دولت" تحولت علاقته بأخيه من طمع في ثروته حياً إلى رغبة مقيتة في الإذلال ميتاً..وفي مواجهة ذلك تقف "زينب" بأولادها بأبيها المريض في مواجهة "حافظ" بحثاً عن استعادة الحق وعن الانتقام .. صراع استمر الجزء الثاني بكامله..
لو مضيت في تحليل المسلسل على طريقة "إبراهيم عيسى" في برنامج "فرجة" - والتي سميت هذه المدونة على اسمه- سأخلص إلى أشياء عجيبة ورموز أعجب ، كفكرة أن "دولت" تمثل المستعمر الأجنبي* الذي لا يكتفي بسلب ثروات مصر "زينب" بل تعمل على إذلال أبنائها بكل الطرق وعدم تحقيقهم لأي تقدم يذكر .. لكني عن نفسي أرى أن مسلسلاً شعبياً كـ"الشهد والدموع" لم يخل من تيمات شعبية ، منها فكرة الأخ الغادر بأخيه ، العم السالب لحقوق أبنائه ، أو الزوجة والأم ، أو الابن الثائر المنتقم.. شيء يشبه من بعيد قصة "سعد اليتيم" ..والتي من الممكن القول بأن المسلسل كان معالجة عصرية لها (وإن كان "أسامة" قد قدمها بشكل أفضل في رائعته "عصفور النار").. وهو ما تأكد أكثر في الجزء الثاني ، بكل ما في شخصية الابن (="خالد زكي") من صراع بين الحب والانتقام..
الجزء الأول دار في مدى زمني قصير لا يتعدى بضع سنوات في أواخر الأربعينيات وانتهى بالثورة ، ولم نشعر فيه بالمط والتطويل الذي وجدناه إلى حد ما في الثاني ، ساعد على ذلك لجوء "أسامة" و"إسماعيل عبد الحافظ" إلى اختصار بعض الأحداث بحكيها على لسان أبطالها ، كما كان متبعاً في بدايات المسرح ، ولو كان المسلسل قد صنع العام الماضي لوجدنا كل حدث وقد خصصت له ثلاث حلقات كاملة ، مما أضفى سرعة وصعوبة على الصراع ، لب الدراما بامتياز..أما الثاني الذي دار في عشرين عاماً تقريباً فلم يخل من بعض المط، وبعض التطويل ، وبعض التشعب ، قد يبرر بصنع عالم خاص وأوسع للشخصيات الجديدة ، وتوضيب العلاقات فيما بينها ، والحدث التاريخي المصاحب سواء نكسة 1967 أو حرب أكتوبر..
أي نوع من الدراما يتضمن صراعاً بين الخير والشر ، وهناك ملحوظة في دراما "أسامة أنور عكاشة" أنه حتى مع اختلاط الخير بالشر في شخصيات دراماه ، كما في "الشهد والدموع" كمثال ، يبقى الصراع لديه بين شر ناصع السواد وخير ناصع البياض ، باستثناء "الشهد والدموع" و "ليالي الحلمية".. بل وصل الأمر في "أبو العلا البشري" لأن يكون صراعاً بين الأبيض "بالجامد قوي" وبين كل الألوان الأخرى.. على طريقة "دون كيشوت" كما ورد في جملة حوارية شهيرة على لسان "صفوت" (="محمد وفيق") لـ"أبو العلا البشري" (="محمود مرسي").. شدة البياض وشدة السواد قد يراها البعض- وأنا منهم- نقطة ضعف في دراما "أسامة أنور عكاشة"..
تاريخياً.. صادفت المسلسل مشاكل إنتاجية ، حيث أنتجت الجزء الأول "ستوديوهات عجمان الخاصة" بالإمارات ، ولما تعثرت الأمور لجأ "أسامة" و"إسماعيل" إلى التليفزيون المصري لإنتاجه ، لتبدأ علاقة شراكة طويلة بين "أسامة أنور عكاشة" والتليفزيون المصري استمرت حتى قبيل وفاة "أسامة" بسنوات..صحيح أن هناك فرق في الصورة يلاحظه المشاهد العادي مع الفرق الزمني الطويل بين سنة عرض المسلسل بجزئيه والوقت الحالي ، وكان حال الصورة في الجزء الأول بطبيعة الحال كان أفضل.. إلا أن نجاح الجزء الثاني جعله أكثر تصميماً على العمل مع التليفزيون الرسمي لسنوات طويلة حتى على حساب منتجين من خارج البلاد، المفارقة الغريبة جداً أن ما حدث في "الشهد والدموع" تكرر في مسلسله الأخير "المصراوية" حيث أنتج الجزء الأول "تليفزيون دبي" بينما أنتجت مدينة الإنتاج الإعلامي مع "محمود شميس" الجزء الثاني .. وشتان جداً بين المسلسلين.. صحيح أن كلاهما لمؤلف واحد ، ومخرج واحد ، لكننا مع الثاني "حاسسين باغتراب"!
* في "زيزينيا" انقلب على نفسه تماماً بحيث اعتبر تجاور الأجانب مع المصريين أمراً شديد الإيجابية ورمزاً لتفتح "الشخصية المصرية" على "الآخر"..الصورة من الويكيبيديا..
* في "زيزينيا" انقلب على نفسه تماماً بحيث اعتبر تجاور الأجانب مع المصريين أمراً شديد الإيجابية ورمزاً لتفتح "الشخصية المصرية" على "الآخر"..الصورة من الويكيبيديا..
2 comments:
لم ارى على المدونات منذ فترة
من يحلل بهذة الدقة والمنهجية
سعدت كثيرا بمرورى بمدونتك
وارجو دوام التواص التدوينى
----------------------
مع تحياتى
حازم ربيع
رغم ان الموضوع مر عليه سنوات لكني اردت فقط ان الفت الانتباه انه لم يكن من الفروض ان يكون هناك جزءان ففي مقابلة مشتركة للكاتب والمخرج اكد الراحل اسماعيل عبد الحافظ انه تم توقيف تصوير المسلسل في عجمان بدعوى انه يدعو لافكار يسارية وبالتالي تم تكيف نهاية الجزء الاول بحيث تكون مفتوحة لجزء لجزء ثان
Post a Comment