Wednesday, October 13, 2010

العرعريت الأنتيخلي


قيل أن عاملاً ريفياً بسيطاً يفك ثلاثة أرباع الخط كان يعمل لدى تاجر في منطقة تجارية شعبية بمدينة كبرى ، فأراد ذلك التاجر أن يستخف دمه ويستظرف على العامل الغلبان ، فطلب منه أن يحضر له كيساً من "العرعريت الأنتيخلي".. وكأي عامل مطيع في مكانه ، ذهب لـ"يلف" الشوارع من محل إلى محل بحثاً عن هذا الشيء الذي لا يعرف مخلوق ما هو ، بمن من فيهم كاتب هذه السطور ، وفي كل مرة كالمتوقع تحاصره سخريات وتهكمات وشتائم الباعة ، الذين لا يعرفون بطبيعة الحال ما هو هذا الشيء..

مر زهاء اليوم الكامل حتى استقر الأمر به لدى عطار ، وكان الرجل المسكين في حالة نفسية بشعة ، ووصل به السخط إلى درجة لم يعد يبالي فيها بأي شيء ، إلا بأن يعرف أولاً ما هو الشيء الذي ظل يوماً بأكمله يبحث عنه ، فسأل -وهو في قمة إنهاكه وإحباطه ويأسه- البائع في المحل عن "العرعريت الأنتيخلي" ، وكان البائع الغشيم في مسائل البيع والشراء على بعض الدراية بأمور العطارة ، التي لا تخل أسماء ما يباع فيها من أعشاب من مفردات غريبة وسيمات عجيبة ، فاستغرب بدوره الاسم ، وكاد أن يدخل في مشادة عنيفة مع العامل المحبط ، لولا أن سمع صاحب المحل ، وكان عجوزاً "عقراً" يتمتع بدهاء وخبرة سنوات طويلة ، فـ"سحب" البائع المتهور وأخذه "على جنب" ، فحكى له الأخير القصة كاملة ، وأن العامل الزبون أقسم له بأغلظ الأيمان أنه يوجد شيء اسمه "العرعريت..الخ" .. فما كان من العجوز أن وبخ البائع ، وطلب منه في الحال بأن يأتي له بحفنة من عشب معروف لدى العطارين غير معروف لدى عامة الناس ، وبأن يضعها في كيس ، وبأن يعطيها للبائع على أنها ما يريد..

المهم أن صاحبنا عاد إلى المحل ، منتشياً بنجاحه الذي سيرضي عنه صاحب المحل السمج ، ليفاجأ بصاحب المحل مع أصدقائه وهو يحكي لهم على العامل الساذج الذي ضحك عليه ، وكم كان ذهولهم عميقاً عندما رأوا كيس ذلك "البتاع" في يديه!

لماذا أشعر أننا كلنا ذلك العامل البسيط شبه الأمي رغم حصولنا على مؤهلات تعليمية مرتفعة؟ لماذا أشعر أن الإعلام يفعل بنا كما فعل به ولي نعمته ، وجعلنا نعيش في نفس ما مر به رجل غريب بسيط التعليم في بلد لا يعرفها لشراء شيء لا وجود له؟ هل هذا ما يحدث أم أنها مجرد تهيؤات وفوبيا لدي من الإعلام كفوبيا الأماكن المرتفعة والمغلقة وفوبيا الكلاب؟

يوجد حولنا ألف "عرعريت أنتيخلي".. ألف شيء لا وجود له .. وألف شيء لا نعرف ما هو ، وألف علامة استفهام يقرر بعض صناع الإعلام ألا يفيدونا عنها بإجابة تشفي الغليل وتطفئ نار الفضول ، أبسط مثال ، سبب الغلاء المتوحش الذي نعيشه هذه الأيام ، الغلاء الذي لم يكن ، ولن يكون ، ظاهرة طبيعية كالزلازل والسيول ، فقط كل ما تفعله أن تجعلنا نصرخ ، "كيلو الطماطم بخمستاشر جنيه" ، "الطماطم بقت عاملة زي الحشيش" .. دون أن نعرف السبب الحقيقي ، والذي أراه عن نفسي أكثر أهمية لي كمواطن ، حتى ربما من أهمية معرفة ما هو "العرعريت الأنتيخلي" لهذا الرجل المغلوب جداً على أمره.. فمن حقي أن آخذ حذري إذا ما رأيت سحب الغلاء في كبد السماء .. فأعمل حسابي وأبحث عن بديل ، أو أتخذ كمواطن خطواتي تجاه أي مستغل طالما أن جمعيات "حموم المستهبل" تتفرج على ما يحدث ، مثلها مثل المراكز البحثية ، وجنرالات قهاوي الاقتصاد ، ومراكز المش عارف إيه للدراسات السياسية والاستراتيجية ، وعباقرة التوك شو من معدين وضيوف وصحفيين يوهموك بأنهم يعرفون عدد أصابع النملة الحامل.. ويزيحوا عني مئونة أن أعيش في مجتمع نصفه من أهل العلم الذين لا يعلمون ، ونصفه الآخر صورة من أبطال رواية "غسان كنفاني" الشهيرة ، وربما الوحيدة "رجال في الشمس" مستسلمون لقدرهم ، ولمن يطلب منهم شراء ، أو التظاهر من أجل "العرعريت الأنتيخلي"..يحبطه النصف الأول ويشعره بأنه يعيش في مجتمع ترفض نخبته ويرفض مثقفوه أن يعلموا وأن يجعلوا غيرهم يعلمون ، فلا يأمن على نفسه في مجتمع هذه نخبته وهذا إعلامه ، فتسود الدنيا في عينيه ، ثم يتحول بالتدريج إلى أحد أفراد النصف الثاني بامتياز.. يسهل تشكيله .. والتلاعب به..سواء من الحزبوطني ، أو الأعيان ، أو من كل من يستطيع أن يدفع أكثر..
* الصورة من comic book movie dot com..

4 comments:

qrique said...

عامة لو عرفت السبب ابقى قوللي :)

د/دودى said...

الكل بيلف ويدور يصرخ او يطلب الرحمه من الغلاء لكن على الرغم من فذلكه الجميع و تفحصهم فى دبه النمله و باستضافه ابو العريف و ام العريف الا ان الكل فى الاخر يقبض الملايين من برنامجه فيخرج من الاستديو يركب عربيته الزيرو ام 2 مليون جنيه....تفتكر الناس دى تفرق معاها كليو الاوطه بكام؟؟

آخر أيام الخريف said...

متألق ...متألق بجد كالعادة :)

قلم جاف said...

تحياتي وشكري للجميع..

العزيزة آخر أيام الخريف : بتخجلي دائماً تواضعي :)

qrique:

أتمنى لو كنت أعرف..

د. دودي:

فكرتني فصيلة أبو العريف اللي اتكلمتي عليها بتغطيات الصحف القومية للثانوية العامة اللي دايماً بتكون من مدارس اللغات والنخبة ، ومش من مدارس الأقاليم والعياذ بالله على أساس إن طلبتها بيدرسوا ثانوية عامة غير اللي بيدرسوا "الماث" والـ"بايو"!