مر الثلاثون من مارس كأي يوم عادي..
ولا يصادف الثلاثون من مارس أي حدث تاريخي ذي أهمية باستثناء ذكرى وفاة عبد الحليم حافظ في مثل هذا التاريخ منذ ثلاثين عاماً..
ونحن- ربما دوناً عن شعوب البسيطة - نتميز بتعامل مميز مع الموت منذ قديم الأزل ، تذكروا أن أكبر وأشهر الأبنية التي تركها المصريون للعالم هي الأهرامات ، أشهر مقابر في التاريخ! ، ولأن المصريين الحاليين "غلابة" بالنسبة للفراعنة ، فقد اكتفوا بنصب القباب وإقامة الموالد وسرد الكرامات حول كل رمز وكل شخصية في كل مجال بغض النظر عن موهبتها وأهميتها وقدرها ومقدارها من عدمهم جميعاً..
الميديا تنصب مولداً لعبد الحليم حافظ كل عام ، تعيد فيه تذكيرنا بعبد الحليم حافظ ، وبأنه لا يزال المطرب الأول والأوحد والأول والأخير واللي في النص ، وفي كل عام تعيد الصحافة "الفاضية" سرد قصة معاناته ، وبالمرة محاولة إشراكنا في حل اللغز : هل تزوج عبد الحليم حافظ سعاد حسني؟ (وهو أسهل من لغز معرفة قاتل السندريلا وهل له علاقة بتنظيم القاعدة أم بغرزة لَلّو؟)..
لا أحد ينكر أن عبد الحليم واحد من أكثر مطربي العالم العربي موهبةً وإحساساً وتأثيراً ، وأن القدر-الذي غنى من قبل في قصيدة "لست قلبي" أنه أحمق الخطا- أسهم بشكل كبير في تحويله من قشة تحركها الظروف إلى أحد صناع الأحداث ، ومن فنان مغمور مكافح إلى معشوق للملايين في كل مكان ناطق بلسان الضاد ، ولم يرتبط فنان بتجربة سياسية قدر ما حدث مع عبد الحليم ، حتى لو كانت تلك التجربة جنت على نفسها أكثر مما اتهمها به أعداؤها (في رأيي وليس هذا موضوعنا)..
لكن تبقى مفارقة غريبة جداً..
كان خبر وفاة عبد الحليم حافظ المنشور في الصحف قبل ثلاثين عاماً قد استهل بمانشيت صغير مقتضب "وفاة عبد الحليم حافظ"..رغم ما صاحب هذه العبارات المقتضبة من ردود فعل وجنازة شعبية حاشدة حضرها الملايين.. والآن بعد أن أصبحت الميديا أكثر توحشاً ، وأقلام الصحفيين وألسنتهم أكثر طولاً وحدة وقدرة على استعمال أوصاف وعبارات أكثر معسولية (وأكثر حدة عند اللزوم)، لم يعد ذلك يحرك ساكناً في الناس..
هل أصبح "الزن على الودان"-الأمر من السحر سابقاً- خاضعاً لأشهر قوانين نيوتن "لكل فعل رد فعل مساو له في المقدار ومضاد له في الاتجاه"؟
الكثيرون (من الناصريين تحديداً) من مداحي مداح القمر يرون أنه غنى أحلام المصريين ، ويدأبون على تكرار ذلك في الوقت الذي تغيرت فيه مصر مائة وثمانين درجة ، وعاش المصريون إحباطات وتجارب مختلفة غيرت وجهات نظر قطاعات كبيرة منهم ، وجعلت تلك القطاعات تتنتقل من مرحلة الاحترام والإجلال الذي يقترب من التقديس لـ"الرموز" (بفعل زن الميديا) إلى مرحلة التشكيك والاستهزاء والتحطيم (بغض النظر عن الصورة السلبية عن الفنانين والفن والتي تروج لها بعض الاتجاهات الدينية)..
يرى مداحو مداح القمر أن تاريخ الغناء في مصر قد انتهى تقريباً برحيله ، وهذا غير صحيح ، ظهر من اجتهد وحاول من بعده ، وتغيرت الظروف عما ساد في مرحلته، وربما كان ليواجه مصاعب حقيقية في زمن لم تعد فيه الموهبة كل شيء..
لم يعِ بعض مداحي مداح القمر أن زمن الفرد الملهم السوبر قد ولى وراح ، وأنه ليس معنى أن موهوباً قد رحل أن ننتظر موهوباً آخر حتى نلحق به!
ربما كان في نية الكثيرين من مداحي مداح القمر مشاريع لاحتفالية استثنائية ، نتج عنها مسابقة لا تقل سخفاً عن سوبر ريد -عفواً سوبر ستار- من أجل اختيار بطل لمسلسل "العندليق" - كما يسميه صديقنا الدكتور وليد عبد الله (طبيب نفسي) - وفيلم خرج مبتسراً رغم الملايين التي أنفقت عليه ، لكن كل ذلك ضاع في الهواء الطلق لأسباب سبق ذكرها ، مضافاً إليه حالة "صدة النفس" التي أصابت أغلبيتنا بعد "الاستفتاء" وهيستيريا الزن الوطني من قبل ميديا الحزب الوطني ، والذي يسعى بعض أعضائه لتحضير "روح" أغاني عبد الحليم الوطنية..
هكذا مرت ذكرى عبد الحليم حافظ كأي يوم عادي ، كل يوم عادي أنتم بخير!
* الصورة من موقع إي-ألوان
* الصورة من موقع إي-ألوان
6 comments:
أعتقد أن ذكرى "عبد الحليم" قد وصلت للتك المرحله المفصليه التى غنّت لها "نجلاء" مطربة الحصان قائله جملتها التى سيخلّدها التاريخ : بح !!
لم يعد فى النفس -بفتح النون- متّسع للمزيد من الحديث عن العندليق و السنتريللا !! هذه رموز زمن آخر له مفردات و رموز اختفت من حياتنا .. 30 عام من الحديث عن العندليب و مآثره تكفى و تزيد .. و ربّما لو خرج المدّاحون قليلا من حالة التقديس و الإطراء عمّال على بطّال و تعاملوا مع ذكرى العندليب باعتباره فنّان مجيد و كفى لتغيّر الحال لكن الذكرى و صاحبها استهلكا حتى الثماله ..
ولى زمن عبد الحليم
نحن الآن في زمن هيفا و نجلا
حتى أغانيه لم تعد تسمع فكيف سيخلدون ذكرى لموته
لا يسعني سوى أن أقول الله رحمه و الله يهدي ما خلق
العزيزة أنيما :
لا أحد ينكر أن عبد الحليم حافظ قيمة ، لا أحد ينكر موهبته ، لكن ذلك لا يدفعنا إلى تقديسه وإلى اعتبار أن الزمن قد توقف عنده..
عبد الحليم كان مرحلة ، منير مرحلة ، ومن بعده مرحلة ، أما هيفا ونجلا فسيتم نسيانهم سريعاً طالما لم يقدموا شيئاً يمكن ذكرهم به..
العبرة بمن يعمل ، وليس بمن عمل بالفعل ونعيش على رصيده..
العزيزة زمان الوصل :
خلصتي كل الكلام .. :) عبرتِ عما أريد أن أقول بشكل أفضل وأكثر إيجازاً بكثير..
انا شايفاه حالة تستحق الدراسة
مطرب الثورة
:)
كان في وقته الأغنية الوطنية بتسمّع وتقّوم وتقّعد همم.. علشان 70% من الناس مقتنعين بالنظام-حتى لو كان غلط-وعلشان الناس كمان وقتها كانوا فاهمين يعني ايه فن، فكانوا بيأثروا وبيتأثروا بيه..الوقت الناس عايشة
وخلاص..اقصد بتحاول تعيش كمان
:)
incompltete:
هو بالفعل حالة تستحق الدراسة ، في ملابسات ظهوره ونجاحه وتحوله من مجرد مطرب لرمز سياسي..
كان قادة الثورة موفقين في اختيار عبد الحليم كرمز للثورة على أساس أنه "صوت جديد" ، وواعد ، ويمثل الشريحة التي استفادت من الثورة- أول الأمر على الأقل..
موهبة حقيقية كعبد الحليم ، فضلاً عن إعادة توزيع الأراضي ، التخلص من الاستعمار ، نقل شرائح أوسع إلى مرحلة المشاركة في صنع القرار وإلى الوجاهة الاجتماعية (العمال + البيروقراط) ، كلها كانت أسباباً مقنعة لاقتناع الناس بالثورة ومطربها..
بعد 1967 تغيرت الحسابات كثيراً ، حتى مع حقيقة أنه لم يكن يعلُ صوت فوق صوت المعركة..
Post a Comment