Friday, November 20, 2009

بيت الأشباح


تخيلوا معي .. قرية ما وقت أن كان الريف المصري يعيش في ظلمة وتخلف وجهل قبل قرن أو يزيد ، كان فيها رجل إقطاعي يشتري كل بيت وقطعة أرض ، فتفتق ذهن بعض أصحاب البيوت والأراضي الصغيرة عن فكرة عبقرية .. استغلال بعض الأشياء الغريبة وتضخيمها تمهيداً لإشاعة أن تلك الأراضي تعوم على بركة من العفاريت.. ولأننا نتحدث عن الجهل والخرافة السائدتين في ذلك التوقيت فمن الطبيعي أن يصل كل سكان القرية ، والقرى المجاورة ، إلى قناعة تامة بأن الأرض ، وبيوتها ، بل والقرية بأكملها "مسكونة".. وانطلى الأمر على الجميع بمن فيهم سكان القرية وجيرانها الذين بادروا إلى حزم الأمتعة فارين بجلودهم ..واللذيذ في الموضوع أن أصحاب البيت أنفسهم صدقوا الإشاعة ، واعتقدوا فعلاً بوجود العفاريت ، وورثوا ذلك لأبنائهم وأبناء أبنائهم..وهكذا صارت القرية قرية أشباح ، ترتع فيها العفاريت حيث تشاء وتريد..

وكما "تحاذق" هؤلاء من الطبيعي أن يستغل ذلك شخص "أذكى" لتحقيق مصالحه الشخصية ، وتتحول إشاعة سكن القرية بالعفاريت إلى لعنة مقيمة على أصحابه..

هذا ما فعله معنا الجزائريون ، وما قد يفعله معنا غيرهم .. إعلامنا سكَّن العفاريت فعمل الآخرون أحلى بيزنس معهم ..

قد يغضب الجميع من السطور القادمة ، لكن فكروا فيها معي..

أصبحنا مجتمعاً فضائياً مفتوحاً ، "فضائياً" بمعنى أن لدينا عشرمية فضائية مفتوحة على الوجه البحري والقاهرة ، ومفتوحاً بمعنى أن كل مشاكله وأدوائه تناقش بقدر كبير من الحرية ، وهي ميزة كبيرة يمكنها أن تتحول إلى نقمة..

هناك محترمون في الإعلام يناقشون تلك المشاكل بحكمة واحترافية مهنية واحترام لعقل المتلقي ، وتجرد بعيداً عن حسابات المصالح موالاة ومعارضة، وصوتهم ضائع وسط صحف من عينة "روزا" و "البديل" و "المصري اليوم" و "الدستور" و "الجمهورية" ، وبرامج من عينة "العاشرة" و "البيت" و"القاهرة اليوم" و "90 دقيقة".. والكل يملكه ، أو يسيطر عليه ، أو يديره رجال أعمال ، أو صحفيون تابعون لاتجاهات سياسية معينة ، يقدمون حملات تتناول - في ظاهرها - مشاكل حقيقية ملحة ، وأزمات تحتاج إلى مواجهة ، ولكنها من الباطن تحمل رائحة تصفية الحسابات السياسية مع الحكومة أحياناً ، ومع المعارضة أحياناً أخرى ، ومع رجال أعمال آخرين في أحيان ثالثة .. لا أعترض على تناول المشاكل ، بل أؤيده في ذاته وبشدة ، فأنا عن نفسي ضد دفن الرأس في الرمال ، لكني ضد التناول المغرض الذي يستبدل دفن العقل بدفن الرأس.. والوسيلة مرآة الغاية .. وكل لبيب بالإشارة يفهم ، ويستطيع التمييز بين تناولات لمواضيع بعينها مثل التجاوزات الأمنية والتحرش الجنسي و ...... تحترم العقل وتحض على التفكير ،وبين تناولات لنفس تلك المواضيع تحول كل هذه المشاكل المصنوعة بشرياً إلى عفاريت ..

وتعالوا أزدكم من الشعر بيتاً ، ببعض التذكير عن "العفاريت" في تراثنا ، فالعفاريت تتميز (1)بالقوة والقدرة على إلحاق الأذى بأيِ كان ، إلى درجة يطلق فيها بعض البسطاء ومحدودي التعليم عليهم وصف "الأسياد" ، وتتميز أيضاً بكونها (2) غير مرئية ، وبالتالي فأي شخص يجد نفسه في صدام وشيك معها لا يستطيع الإعداد لمواجهتها أو حتى الدفاع عن نفسه في وجهها في الأحوال العادية ..وأمام خصم لا تتوقع ظهوره ولا تعرفه ويستطيع أن يؤذيك ، ينتهي بك الأمر مشلول التفكير ، لا تملك إلا أن تسلم نفسك لأقرب دجال يبيع لك الأمل في الحل ،أو في ما في حكمه ، وتشتري أحجبته وتعاويذه ، أو تقوم بالزعيق والتظاهر في وجه "الأرواح الشريرة" كما يحدث في العديد من الثقافات البدائية ..

نعم ، نجح أصحاب المصلحة في ميديا المال السياسي وفي "الميديا الرسمية" في تصنيع أكبر قدر ممكن من العفاريت ، ليسوق كل فريق نفسه كمنقذ ، كحامل للتعاويذ والتمائم ، ومُصَنِّع لكافة الطقوس المستخدمة لطرد الأرواح الشريرة بعيداً عن جعلنا نفكر ونتعقل في مواجهة كل ظاهرة .. ليوصلونا إلى مدى بمقتضاه أصبح كثير من أبناء البلد يفكرون في فعل ما فعله أهل وجيران القرية "المسكونة" سالفة الذكر..

الغريب أن المثل المصري يقول "اللي يحضر العفريت لازم يصرفه" ، وللأسف فإن محضري العفاريت ، من ساسة وصحفيين وإعلاميين قد فشلوا في صرف العفريت ، ليجد في مكان ما بالعالم من يستطيع التحكم فيه واستخدامه ضد الكل كليلة ، بمن فيهم صانعو العفاريت..

اقرأوا وحللوا تفاصيل الحرب الإعلامية الجزائرية ضد مصر قبل وأثناء المباراتين وبعدهما ، ستخرجون بنتائج وخلاصات قد توافق أو تخالف ما وصلت إليه ، لكني عن نفسي كلما أحملق في التفاصيل أشاهد أشياءً أقول حين ألمحها "هوة أنا شفت الكلام دة فين قبل كدة؟"..من أول التجاوزات الأمنية رغم الوداعة الفائقة التي أبداها الأمنيون مع الهووليجانز الجزائريين ، إلى عفريت التحرش رغم أنه لم يتم التحرش بأي "دجاجة" جزائرية ، والتعتيم الإعلامي رغم أن "صلاح فؤاد"-عفواً : المخرج- "خلاني أشوف كوووول عاااااجة*" بما فيها الإشارة فائقة البذاءة التي قامت بعملها مشجعة جزائرية.. أمر جعلني أسأل، وقد يجعلك تسأل :"هية العفاريت دي طول النهار عمالة تخض فينا؟ اشمعنى ما طلعتش ليهم؟"

يقول التعبير المصري الدارج "ما عفريت إلا بني آدم".. العفاريت لا تخيف ، والأسياد لا يرعبون ، حضرها بشر ، ويمكن للبشر أن يعيدوها إلى قماقمها حيث كانت ، لتصحو عقولنا في وجه كل من يحضر عفريتاً يخيفنا به ، ليسخره شخص آخر في مكان ما من العالم ضدنا جميعاً ، سواء نحن معشر "المعفرَتين" ، أو" "المعفرِتين" المستفيدين من تحويل بلادنا إلى بيت تسكنه الأشباح..دمتم بخير ، وعذراً للإطالة الشديدة في تدوينة تبدو ثقيلة الظل..
*العبارة للممثل الكبير الراحل "علي الشريف" من فيلم "واحدة بواحدة" والصورة من الدويتشة فيللة..

2 comments:

خواطر شابة said...

بداية تهنئة بمناسبة عيد الاضحى المبارك أدخله الله بالخير عليك وعلى كل من تحب
الطرح الذي طرحته يعتبر معالجة مختلفة لمشكل مصر والجزائر الذي أفسره بأنه كان ككرة ثلج بدأت صغيرة وظلت تكبر وتكبر الى أن أصبح من الصعب ايقافها حتى على من صنعوهابحيث أصبحت هي من يسيرهم بدل أن يسيروها هم
تحياتي لك

قلم جاف said...

العزيزة خواطر شابة .. كل عام أنت بخير وعذراً للتأخير في التهنئة والرد..

الموضوع ليس مجرد كرة ثلج .. فهو يذكرني بقصة الدبة التي قتلت صاحبها ، مع الفرق أن الدبة كانت تحب صاحبها!

أما الكلام عن الإعلام "القومي" وإعلام المال السياسي ، فلا زال موصولاً.. وفي القريب العاجل بإذن الله ..