Friday, November 12, 2010

تخاريف الفرجة والحراك : عن "الجزيرة" أكتب


0-جاء الحراك في الفترة التي تعيش فيها السينما التجارية عصراً ذهبياً ، أو بعبارة أبسط وأوضح ، صارت السينما نشاطاً اقتصادياً رابحاً ، ودخل فيه العديد من المنتجين استطاعوا بأفلامهم تحقيق نجاحات تجارية كاسحة ، ومنذ طرح مصطلح "الحراك السياسي" تواصل ازدهار السينما التجارية، زاد عدد المنتجون ، وكذلك نجوم الشباك من أمثال "السقا" و "كريم عبد العزيز" و "أحمد حلمي" و "أحمد عز" ولحق بهم "مكي" ، فضلاً عن تجارب بطولات جماعية لممثلين معروفين كما في "كباريه" ، "الفرح" ، "عمارة يعقوبيان" ، أو لوجوه جديدة كما في "أوقات فراغ" ، "سمير وشهير وبهير" و "ورقة شفرة".. ولما كانت السينما فناً واقتصاداً في نفس الوقت ، فقد تأثرت بمصادر تمويلها ، وهم إحدى فئتين ، فئة المنتجين التقليديين الذين ينتجون فناً يربح ، كـ"آل السبكي" والثلاثي ، وفئة المنتجين رجال الأعمال من صناع تيار المال السياسي أو من المتحالفين معهم كـ"كامل أبو علي" الذي كون في وقت لاحق تحالفاً احتكارياً كبيراً اسمه "مصر للسينما" مع "نجيب ساويرس" أحد كبار رموز ذلك التيار..

1-ومنذ 2005 قدمت السينما التجارية المصرية عدداً كبيراً من الأفلام موزعة على قوالب عدة ، ما بين أفلام الجريمة والعنف والأفلام الاجتماعية والأفلام الكوميدية بأنواعها "الخفيف والموسيقي وغيرها" ، لكن القاسم المشترك بين معظمها أن بها حاضر غائب هو السياسة.. وإذا كان فيلم "المحفظة معايا" قد يؤرخ له بأنه الفيلم الذي بدأت به "سينما الانفتاح" ، فإن "الجزيرة" هو الفيلم الذي أراه أكثر الأفلام توضيحاً لـ"دماغ" المال السياسي، حتى وإن لم يحسب منتجوه عليه ، فنجاح إعلام المال السياسي في تشكيل "دماغ" الشارع كان يجب استثماره في صناعة تجارية يعتبر البحث فيها عن الربح أمراً مشروعاً وضرورياً..

2-الملاحظة الأولى أن الشخصية الرئيسة البطلة في الفيلم هي شخصية ترمز لـ"عزت حنفي" امبراطور "النخيلة" وإن حاول صناع الفيلم التشويش على ذلك ، و"عزت حنفي" الذي نسجت عنه القصص بل والأساطير يبقى تاجر مخدرات وسلاح وخارج شهير عن القانون ..ويلاحظ –بالمناسبة- أن النقاد وكتبة الأعمدة الذين يقدمون لنا أنفسهم على أنهم أصحاب "نزعات أخلاقية" في نقدهم وانتقادهم للسينما قد غضوا الطرف بالمرة عن تقديم نموذج "عزت حنفي" –تاجر المخدرات والسلاح ....الخ- كبطل و"شجيع" في الوقت الذي كنا نسمع فيه صراخ أساتذتهم على أفلام "عادل إمام" التي كان فيها طبقاً لمعاييرهم "بلطجياً"- مثل "أنا اللي قتلت الحنش" ، "المولد" ، وغيرها- باعتبار ذلك الاختيار "لا أخلاقي" و يعكس "تدني الذوق العام والمعايير الأخلاقية في المجتمع".. نظام "لو كان سيفي معي ما احتجت للقلم" في "خلي بالك من زوزو"..

3-إلا أن تلك الممارسة لم تكن غريبة على الوجدان الشعبي المصري ، الذي اختار من قبل "أدهم الشرقاوي" كبطل قومي في مواجهة الاحتلال البريطاني رغم كل ما يقال عنه أنه كان لصاً وقاطع طريق ، لكن صناع الفيلم لم يروا في بطل "الجزيرة" – في اعتقادي كمشاهد – فقط مجرد نموذج للبطل الـ "anti".. من الـ :"anti-hero"كما سيتقدم – بل أيضاً كنموذج لـ"الحاكم العادل" أو "المستبد العادل" – كما يروج له في الفكر الناصري- في مواجهة "الحاكم المستبد" الذي يجب أن يثور الناس من أجل خلعه وإحلال "العادل" مكانه ، كما يمكن أن نلمح في تيارات سياسية ودينية ، وفي كتابات كتاب صادفوا هوى لدى المال السياسي من أمثال "جمال البنا"..صحيح أنك مهما بحثت لن تجد معياراً واضحاً لعدل "البيه العادل" .. لكن "الجزيرة" يعطيك خيطاً تستنج به ماذا يقصد به وماهية معايير عدله..

4-يشترك بطل "الجزيرة" و"أدهم الشرقاوي" أن كلاهما كما سبق anti - مضاد يعني – الأخير كان في مواجهة الاحتلال والأول في مواجهة "النظام" الذي أصبح "غير محبوب" لدى جمهور الفيلم بشكل صريح بعد أن كان كذلك بشكل ضمني قبل الحراك ، صحيح أن "فساد النظام" الذي يرمز له الفيلم بعدة رموز من بينها والد الضابط – لعبه "عبد الرحمن أبو زهرة"- والضابط الفاسد الآخر"رشدي علوان"-لعبه "خالد الصاوي" -أسهم في صناعة "الامبراطور" وتحويله إلى وحش ، وما بني على باطل فهو بالضرورة باطل ،إلا أن صناع الفيلم نجحوا في تحويله ليس إلى بطل شعبي فحسب ، بل أيضاً إلى مستبد عادل نموذجي..

5-بدأ تمهيد الفيلم بمشهد استكشافي للضابط الشريف "طارق"–الذي لعبه "محمود عبد المغني"- والذي قد يُبَرَّر وجوده درامياً في محاولة منه لمعرفة من هو حاكم الجزيرة ، ولأنه من البديهي أن تسأل عن شخص ما إن أردت أن تعرفه قبل أن تواجهه ، كان عليه وعلى مرافقيه أن يستقصوا الحقيقة عن ذلك الحاكم ، لتعرف من جمل حوارية قصيرة مقتضبة أنه "مكفيهم" و"مش مخليهم يستغنوا عن حاجة" –من طعام وشراب و"كيف"- وبأنه يمتلك من القوة ما يكفيهم للشعور بالأمان ، ومن الدهاء والحكمة ما يؤهله لحفظ الجزيرة من أي اعتداء من أي طرف ، من خلال علاقاته بالفاسدين من أمثال "رشدي بيه".. بل ويتعدى ذلك إلى الإشارة الصريحة إلى ذلك في تقرير الضابط الشريف إلى "رشدي علوان" ورؤسائه..

بل وحتى عندما يفرط أكثر من اللازم في شرح الجوانب الإنسانية لـ"البطل الملحمي" "منصور الحفني" -لعبه "أحمد السقا"-" الماهر المتعلم الداهية الثائر الحامي الدماء كما قد نرى شذرات منه في القصص الشعبية المصرية ، يرى أن تحوله إلى قيادة عائلة كبيرة تعمل بتجارة المخدرات إنما جاء في المقام الأول قدرياً –"انت قدرك تكون الكبير" عبارة الفنان الكبير "محمود ياسين" له- قبل أن "يرث" منه الابن كل تركته بما لها وما عليها ، وعليه فإن تغيره السلوكي لم يأتِ بفعل تحوله إلى العمل في تجارة المخدرات بشكل مباشر ، قدر ما جاء بفعل تحوله إلى صاحب سلطة ، وعليه فمن "الأخلاقي" أن يفعل أي شيء ، بما فيه تصفية خصومه ومن يشكلون خطراً عليه –مثل عمه الذي لعب دوره "باسم السمرة" ومثل العائلة التي قتلت زوجته- من أجل حفظ "الثورة البيضاء" التي قام بها من أي تهديد .. وكل ذلك يمكن جبه بما يحققه "المستبد العادل" لرعيته من أمن وأمان..كاد أن يصل لدرجة النضج بعد إقراره لصلح وشيك مع العائلة العدوة التي منها حبيبته في الفيلم –لعبتها "هند صبري" نقطة ضعف فريق التمثيل في الفيلم.. يعني سلام وأمان واستقرار يا معلللللم!

6-ثم ، بعد ذلك ، تنتهي القصة بمنحى "ملحمي" آخر ، بإنهاء إمبراطوريته على طريقة القصص الشعبية المصرية ، ولكن "بتوزيع جديد" ، بمواجهته عدو لا قبل له به ، هو "الشر على البطل" أو الـ anti-hero الأشهر في مصر بعد ظهور الاعتصامات والاحتجاجات بشكل واسع بعيد الانتخابات البرلمانية والرئاسية- الذي صنع منه أسطورة ، ودون وجود خيانة كما هو المعهود في الملاحم الشعبية المصرية ، ليتم صيده كأسد ، لا كمجرم ، ويُكافأ في نهاية القصة بهربه دلالة على استمراره واستمراريته..لا بموته على العكس من القصص الشعبية–مثل "أبي زيد الهلالي"!

7-ولكي يتعاطف المرء مع نموذج ما يجب أن يفهم أكثر النموذج المضاد ، بحكم أنه "وبضدها تتميز الأشياء" ، وعليه يجب أن يفهم المشاهد منطق الأمن –الذي تحول من النقيض إلى النقيض في السينما المصرية ، من نموذج للخير على طول الخط كما في معظم إرث السينما المصرية إلى نموذج للشر كما سأعرض في مقالات قادمة – ذلك المنطق الذي بان في حوار بين "محمود عبد المغني" وأبيه .. حيث يشرح الأخير المبرر الذي تحالفت معه أجهزة أمنية مع أمثال "عزت حنفي" .. الذي كان وعائلته يقدمون لتلك الأجهزة خدمات سياسية وأمنية لا حصر لها إبان انتشار الجماعات المسلحة المتطرفة في الصعيد في فترة الثمانينيات ، وهذا صحيح تاريخياً ، ولكي يستعدي المشاهد-الصغير السن نسبياً المتحمس للتغيير المتعاطف نسبياً مع الناشطين الجدد الذين اصطدموا بالأمن منذ بدء الحراك وإلى الآن-أكثر يلجأ إلى عبارة ما معناها – "ما تعمليش زي بتوع حقوق الإنسان اللي يقولولك التعذيب ومش التعذيب ،وأول ما الخدامة تسرقهم يقولوا اعملوا فيها اللي انتوا عايزينه" –وهذا صحيح ، وربما يعكس –عن قصد أو غير- جزءاً من تفكير الناشطين والاعتصاميين القادمين في معظمهم من طبقات شبه مرفهة ، لكن الضابط الشاب يرفض ذلك المنطق ، انتصاراً للقانون والمثاليات التي يؤمن بها ، ليدخل ، إلى جانب الفاسد "رشدي علوان" ، المعركة الكبرى مع جيش "السقا" –الذي تحولت لازمته "ومن النهاردة مفيش حكومة .. أنا الحكومة" عن غير قصد إلى نشيد لمرحلة الحراك كلها ، مع اختلاف في دوافع الاثنين ، فالرجل – شبه المتعاطف مع المستبد بيه العادل- يريده حياً ، أما "رشدي" فيريده ميتاً كي يموت كل شيء معه ، وتبقى الصورة السلبية–التي يقول الفيلم أنها ملفقة- عن إمبراطور الجزيرة قائمة..

8-تبقى ملاحظتان.. الأولى هي أن البعض قد يقول "وإيه يعني؟ انت ليه مكبر الموضوع قوي كدة ومديها رموز وحنجوري؟ ما الكلام دة شفناه في أفلام زي "أبو حديد" لـ"فريد شوقي" و"الإمبراطور" لـ"أحمد زكي" وحتى فيلم "السقا" اللي سبقه "تيتو"؟".. الرد سهل .. حرصت كل الأفلام المذكورة على صنع بطل يتمازج فيه الخير والشر معاً ، بنسب ثابتة ، دون جعل المشاهد قدر المستطاع يتعاطف معه ، في تحد لإرث السينما المصرية عن البطل "الشجيع" ، ودون جعل المشاهد يرفض النهايات المنطقية للأفلام الثلاثة ، خاصةً "تيتو" الذي يشبه "الجزيرة" أكثر من أي فيلم آخر.. وهو لنفس مخرج "الإمبراطور" "طارق العريان" ويعكس نفس فلسفة ذلك المخرج "الصنايعي" المحترف ، بل يعتبر في نهاية "تيتو" بالتحديد نوع من "التطهير" لبطل القصة الذي لجأ إلى الجريمة في ظروف صنعت منه مجرماً..

9-الملاحظة الثانية .. وهي بما أننا نتحدث عن "الحراك" وتوابعه وتركيزه على الوصول لـ"الجماهير" –عامة الناس- لم يكن لعامة الناس حضور كبير في "الجزيرة" على العكس من أفلام أخرى سواء بشكل جمعي –"هية فوضى" – أو فردي "واحد من الناس" ، والسبب هو ما يريد صناع الفيلم عادةً تطبيعنا عليه عندما نأتي على ذكر المستبد العادل .. وهو تغاضي عامة الناس عن أي شيء يمكن للمستبد العادل فعله نظير حصولهم على الأمان بكافة أشكاله ، وبالتالي يصبح كل ما يفعله هو الصواب ، ويصبح هو أكثر من مجرد حاكم – جانب أغفله "النقاد الأخلاقيون" الذين لم يسألوا أنفسهم كيف دار الحوار حول "الأخلاقي" في العاصمة حيث تصنع السياسات ولم يُدَر عما يحدث في "الجزيرة" ، الذي صادف أن تكون في اللغة رمزاً للانعزال والابتعاد عما سواها بما أن البحر يحيطها من كل جانب..

10-صناع الفيلم "ما جابوش الكلام دة من برة".. هم استلهموه من المزاج الذي صنعه إعلام الحراك السياسي وما زال يصنعه ، استطاعوا به استقطاب الجماهير وتشكيل عقولهم به ، المزاج "المثالي" جداً الذي يتحدث عن الحرية والديمقراطية ويروج لكل أشكال المثاليات بدءاً من الحريات السياسية والاجتماعية إلى التسامح الديني إلى ..إلى.. في الوقت الذي يروج فيه نفسه لقمة الغائية في تطبيق كل تلك النماذج ، زيه زي الأمن بالضبط ، والتي من أشكالها علاقة أهل "الجزيرة" بـ"عزت حنفي" .. الصورة أو الكتابة..

واستلهام صناع الفيلم لذلك المزاج جاء كذكاء سوق ، فالسينما صناعة جماهيرية موجهة لجماهير يدفعون ثمن التذكرة ، وعليه يحاول الصانع "الصنايعي" تلبية ما يطلبه الجمهور ويعكس ذوقه وتفكيره وعواطفه –بشكل صادق عفوي أو مفتعل مش مهم- كما يحدث منذ بدء السينما في مصر ومنذ بدئها في العالم عموماً..

11-أخيراً ، وبما أن صناع الفيلم "صنايعية" – يبنون على الحالي ولا يبنون الجديد عكس الصانع "المفكر" – فجاء الفيلم جيداً جداً من ناحية الصنعة ، فريق تمثيل في حالة ممتازة ، استغلال محكم لطبيعة الجزيرة ، مشاهد حربية متقنة للغاية ، تظهر فيها أثر النعمة الإنتاجية ، والصنعة والمهارة من قبل مديرها "شريف عرفة" ..مخرج هو أفضل صنايعية السينما الآن ، يسجل في كل مباراة يلعبها ويتقن في كل تحد يدخله .. ويحرص على أن تعجب كمشاهد بما يقدمه من لوحة بصرية وسمعية حتى ولو رفضت مضمون الفيلم جملةً وتفصيلاً.. ولو كان في زمن آخر بعيداً عن حسابات الحراك السياسي المزعوم لجعل الفيلم أكثر إمتاعاً ، ولجعلك ترى بطله أكثر إنسانية ، لا كمستبد عادل مثالي ، وترى الصورة من كل جوانبها..

12-رسخ الحراك السياسي في رأيي لفكرة "الغاية تبرر الوسيلة".. أمر لا تخلُ منه حتى صناعة السينما ، لكن وسائل السينما قد تكون من الجمال بأن تجعلك تقبل الغاية ، أو تعشق الوسيلة بحيث تنسيك الغاية .. جودة صناعة "الجزيرة" تجعله على رأس قائمة أهم أفلام فترة الحراك السياسي (2005-الآن) .. لكنه لا يبقى الوحيد..

عذراً لأطول تحليل قرأتموه لفيلم مذ ولدتم! :)
* الصورة لـ"الحكومة" في مواجهة "الحكومة" .. "رشدي علوان" في مواجهة "منصور الحفني" .. ربنا يخليلنا Image Shack :)

5 comments:

آخر أيام الخريف said...

لأ المرة دى نختلف ... الفيلم عجبنى جداً بصراحة و أحمد السقا اتقدم بشكل مختلف و مميز ..و بعدين بطل تقرل لفكارى و تحرق تدويناتى بقى :)))

قلم جاف said...

أنا ما اختلفتش على الفيلم كسينما، المصيبة إنه حلو قوي سينمائياً، بس مضمونه عليه علامات استفهام كبيرة..

لما الفيلم يكون معمول وحش وبيقدم مضمون وحش دة أمر عادي .. لما الفيلم يكون معمول وحش وبيقدم مضمون حلو دي مشكلة .. لما الفيلم يكون معمول حلو قوي وبيقدم مضمون بالشكل المزري واللا أخلاقي والغوغائي دة دي قمة الخطورة.. دة لو كان رموز المال السياسي زي "أديب" أو"ساويرس" أو "بهجت" تعمدوا إنتاجه ما كانش طلع حلو قوي كدة كشكل وبشع قوي كدة كمضمون!

آخر أيام الخريف said...

كل ده ما يعفكش انك حرقتلى فقرة كاملة ف تدوينة بقالى 3 شهور بكتبها ...أعمل فيك ايه دلوقت ؟

:)))))

قلم جاف said...

بالله عليكي.. قوليلي أنهي فقرة بالتحديد اللي حرقتها؟ :)

كل سنة وانتي طيبة..

آخر أيام الخريف said...

لسه ما نزلتش التدوينة أصلاً :))) انا بكتبها م 3 شهور عشان ولادتها متعسة شوية معلش :)))))