Friday, April 15, 2011

مصر الأخرى


كلما أحضر لسلسلة من التدوينات ، أو لتدوينة واحدة فقط ، هنا أو في المدونتين الأخرتين ، أنسى تلك الأفكار تماماً وأجد نفسي غير قادر على الكتابة .. قد يرجع ذلك لحالة من صدة النفس.. ربما ترجع إلى التخبط الذي أعيشه كشخص عادي من عامة الشعب ، تخبط سببه أنني لا أعرف أي مصر أعيش فيها بالضبط؟ إذا كنا في حصص النحو نرى أسئلة في موضوع "تمييز العدد" من عينة : "كم قرشاً في الجنيه؟" ، "كم متراً في الكيلومتر؟".. أصبح من العادي أن نسأل أنفسنا: "كم مصراً في مصر؟"..

أمصار لا مصر .. مصر المثقف غير مصر الأيديولوجي غير مصر المستقل غير مصر الفلاح غير مصر رجل الأعمال غير مصر الإعلام "المتحول" غير مصر إعلام المال السياسي غير ..غير..قد تتباين الرؤى والمصالح والأولويات.. لكن ليس إلى الدرجة التي يصبح فيها لكل فئة مصر الخاصة بها وتحاول أن تجعلنا نعتقد أنها مصر التي أعيش وتعيش ونعيش على أرضها ووسط مصريين آخرين!..

إذا كنت من أقوياء التحمل ، عرج قليلاً على برامج التوك شو ، والاستوديوهات التحليلية المنصوبة هنا وهناك ، في"الحياة" أو في "دريم" أو في "الجزيرة مباشر مصر" أو حتى في التليفزيون الحكومي "أبو من غير وزارة إعلام".. وستسمع لأمور تستغربها ، ومصطلحات غريبة وعجيبة ، وتقاليع وهتافات من عينة "سلام الثورة" لصاحبه "المسلماني"، هذا غير "الروح الثورية" و"الشرعية الثورية" و"المشيك الشوري المشترك"، وأمور لا يشاهدها البني آدم بالعين المجردة ، يحدثك بعضهم عن "الروح الجديدة التي دبت في مصر بعد الثورة" ، في الوقت الذي لم ألاحظ فيه ، ولم يلاحظ فيه كثر غيري أي تغير في السلوك الفردي والجماعي للأحسن ، إن لم يكن ذلك التغير في الاتجاه العكسي ، نفس النفعية ونفس الفردية ونفس الغش ونفس الكذب ونفس كل ما هو سيء..

يبذل هؤلاء كل جهد في إقناعك بأن مصر قد تم تنظيفها من الفساد بالديتول لمجرد أنه قد تم عكش "ليون كنج" وقبيلته وطغمته ، في الوقت الذي نجد فيه من "فلول النظام" من تم ترشيحهم لمناصب رفيعة، ومن يكتب في صحف "مستقلة" "داعمة للثورة" ، ومن يعاملون كأبطال بعد أن حصلوا على صكوك الغفران إياها بعد سب كل ما يسب للنظام السابق الذي أحضرهم لنا ليجثموا على صدورنا حينا من الدهر.. وهؤلاء الإعلامجية يتعاملون مع تلك الحقائق التي تنشرها وسائل إعلامهم بلامبالاة واستعباط كما لو كان ذلك يحدث في مصر أخرى..ومن يقتنع بأن النظام ليس فقط مجرد أشخاص ، بل هو ممارسات وتفكير ، ومعارضة وموالاة ، ونخبة بيزنس قررت ممارسة السياسة بدراع المال وبساطوره ، فليحتفظ بترهاته تلك لنفسه..ولا يخبرن بها أحداً قد لا يقال أنه التقط "الهسهس" من الجو..

يحرص هؤلاء على إيهامك بأن الثورة "ثورة ثوار" وليست "ثورة شعب" كما هلل لها من كانوا على فضائياتهم يتبارون على وصف من وفدوا إلى التحرير بكل وصف بذيء حتى "ليلة التنحي دول" لسادسة تبقى حتى منتصف ليل الجمعة الحادي عشر من فبراير ، وبالتالي فإن "البلد حتنضف" -بنفس زجاجة الديتول- إذا ما تم عكش جميع الفاسدين والمفسدين بتهمة موقعة الجمل ، وبعدها ستعود الحياة إلى طبيعتها كما لو لم يكن هناك فساد في مصر ، وسنعيش في تبات ونبات ونخلف صبيان وبنات.. المظاهرات كانت في مصر .. أما الفساد الذي سبقها على مدى عقدين وبعض العقد فقد حدث في مصر الأخرى.. أكيد فاهم..

أتكلم بتلك المرارة كشخص يكبر سناً بقليل من كانوا في "التحرير"، كثير منهم على الأقل.. وكثير ممن كانوا في ميادين أخرى لم تعرفها وسائل الإعلام التي لا ترى أبعد من حدود العاصمة.. كواحد من جيل -بالتعبير الدارج- "أخد الشتواية فوق دماغه" ، وربما أخذها الجيل الأقدم الذي عاش الثلاثين عاماً الأخيرة بشكل أعنف ، ومن أول الموجة ، بحكم أنهم عاشوا شبابهم كله في فترة الثمانينات التي كنت فيها وجيلي أطفالاً.. وتحملوا كل الأخطاء والحماقات التي وقعت في حقهم في مجالات التعليم والصحة والخدمات ودفعوا ثمنها بطالة وإحباط وأشياء أخرى كثيرة.. تلك الأجيال وجيلي تتساءل في براءة عمن يحاسب من فعل بهم ذلك طوال ثلاثة عقود ، في الوقت الذي نجد فيه بعض ممن ارتكبوا تلك الجريمة يلعنون سلسفيل النظام السابق ويعيشون دور الملاك البريء أبو قلب طيب قوي ، وبعضهم الآخر قد حصل على صك الغفران بمجرد تركه لكرسيه الوثير كما لو كنا من وضعه عليه.. وربما نجد من يطالبنا بأن نقول لهم "احنا آسفين يا توشكى"..

يبدو أن تلك الحماقات قد وقعت ، والله أعلم ، في بلد غير البلد الذي يعيش فيه كثير من الناشطين ، الذين يقصرون الحساب على خمس سنوات خلت ، وعلى قتل المتظاهرين دون الانفلات الأمني ، وعلى "فتحي سرور" رئيس مجلس الشعب دون "فتحي سرور" - برضه- الرابسو الأعظم الذي جعل تعليمنا أكثر بياضاً..وغير البلد الذي تركه صاحب محل تصليح الأحذية الذي حكى لي عن تجربته في العراق قبل العودة منها في التسعينيات لتعود معه ملايين انضمت لطوابير العاطلين لمجرد أن العباقرة هنا "ما عملوش حسابهم"..

هل من الممكن أن "نوسع الكادر" لنرى الصورة بكافة أبعادها؟ أليس من المحتمل أن نرى مصراً أخرى إذا ما وضعنا فيها حسابات فئات لا يراها المثقفون ولا الساسة ولا حتى الناشطين؟ قد لا تكون مصر الحقيقية.. لكنها قد تكون أقرب نسخة للحقيقة..
*الصورة من "الجزيرة نت"..

1 comment:

آخر أيام الخريف said...

يااااااااه ... قلبت عليا المواجع يا اخى