Sunday, March 25, 2012

مشهد واحد .. لـ"عاطف الطيب"

في قصر ثقافتنا العامر قرروا عمل شهر لأفلام "عاطف الطيب" ، اختاروا فيه أربعة أفلام هي "سواق الأتوبيس" ، "البريء" ، "ضد الحكومة" ، و "ليلة ساخنة".. أمر يثير غصة في الحلق سببها أن من اختاروا الأفلام الأربعة نسوا فيلما اسمه "الهروب" ، ولو كانوا شاهدوا تلك اللقطة التي في الصورة أعلاه لغيروا رأيهم.. "عاطف الطيب" أكبر من أن يتم حبسه في "سواق الأتوبيس" أو "ضد الحكومة" أو حتى "ليلة ساخنة" الذي حاز جائزة.. (رغم أن "ليلة ساخنة" كان مرحلة في ظهور أفلام اليوم الواحد التي تكررت كثيراً في الوقت الحالي)..

لن أتطرق لمزيد من التفاصيل عن فيلم تظهر فيه مميزات "عاطف الطيب" كمخرج سينمائي عن باقي أبناء جيله ، ولا عن التناول البصري الفريد للصعيد ، بشكل لم يتكرر إلا على يد مخرج من تلامذته هو "محمد ياسين" ، سأكتفي فقط بهذا المشهد الذي يعد "ماستر سين" بكل دلالاته ..

"منتصر" الذي يذكرك من بعيد بـ"سعيد مهران" في "اللص والكلاب" ، محاصر بين شقي رحى ، بين "سالم" الذي لا يشارك "منتصر" فقط كونه من بلد واحد ، بل يحمل معه نفس النبل والطيبة التي تأبى إلا أن تتعامل مع "منتصر" كشخص يجب تسليمه للعدالة ، وسلطة القانون ، الذي يحميه حتى من شق الرحى الآخر ، "فؤاد الشرنوبي" ، الذي لا يرى في "منتصر" سوى كارت في لعبة قذرة لا تكترث بقيمة الإنسان .. أي إنسان .. كارت ما إن يتم استخدامه حتى يحرق ، أو يقتل ، والتفسير الذي سيقوله لن يخرج عما جاء لاحقاً على لسان "سعيد العراقي" في "أبو علي" : "مجموعة من الخارجين على القانون خلصوا على بعض".. يوجز "سالم" موقفه في جملة حوارية واحدة وهو يدعو قبلها "منتصر" لأن يسلم نفسه : أنا أرحم من غيري يا "منتصر"..

كان "سالم" واضحاً معه ، جاء بمفرده ، بناءً على وعد قطعه ضمناً مع أقرباء "منتصر" الذي اختبأ عندهم هذا الأخير ، "لما تعوز تقبض عليه دور عليه في أي حتة تانية غير هنا يا ولدي".. لم يكن أمامه حل آخر سوى أن ينقذه بهذه الطريقة ، أما "الشرنوبي" (=لعبه "محمد وفيق" في واحد من أجمل أدواره) فيرى الموضوع بعين أخرى ، جاء هذه المرة برجاله مسلحاً ، من أجو "شو" يخفي فيه التخلص من كارت "منتصر" الذي استنفذ غرضه..

أمام المدخل يظهر "منتصر" محاصراً ، كما يبدو لأول وهلة ، بين "سالم" من الخلف ، و"الشرنوبي" من الأمام.. محاصراً بين وجهين مختلفين لمؤسسة واحدة .. يتجه للخلف بظهره صارخاً في وجه "الشرنوبي" "انتو عايزين مني إيه"..

"ما تخافش يا منتصر.. دي آخر مرة حتشوفنا فيها"..

هنا يعرف "سالم" النية الحقيقية لـ"الشرنوبي" يواجهه ويحذره من أن يمس "منتصر" بسوء.. ليستغل الأخير الموقف .. يأخذ المسدس .. ليستغل "الشرنوبي" الفرصة لينهي الموضوع ، بطريقته ، غير مكترث بمن سيموت ، يضحي "سالم" بحياته لإنقاذ "منتصر" الذي يختار أن يضحي بحياته كي لا يدفع "سالم" ثمن ما فعله هو..

صراح جناحي المؤسسة الواحدة انتهى لصالح الجناح الأفسد .. الذي يمشي رمزه في بطء وفي عينيه نظرة زهو وتشفي ، تقابلها حركة هادئة من "صباح" (=لعبتها "هالة صدقي") تجاه جثتي "سالم" و "منتصر" ، تنظر إليهما في ذهول قبل أن تنظر لـ"الشرنوبي" ورجاله..

يدير "عاطف الطيب" مشهداً كهذا بما يستحقه من اهتمام ، ظلمة تكسرها إضاءة سيارات الشرطة ، فرق التون الصوتي بين نبرة "سالم" الهادئة التي لا تخل من نبل ، وبين نبرة "فؤاد الشرنوبي" المستعلية ، نظرات وحركات "منتصر" الذي تنسى معها أنك تشاهد "أحمد زكي" ، تقمص كامل للدور من شعر الرأس لأخمص القدم ، نظرة الحصار ، بطء الحركة بالظهر ، وقفة "سالم" الذي يمسك المسدس بشكل يوحي بأنه موجه لـ"منتصر" فيما هو في الواقع لحمايته من "الشرنوبي".. الكادر الذي يتحرك فيه "الشرنوبي" منتصراً متشفياً مزهواً ، بخطوات بطيئة ، يستحوذ فيها على معظم مساحة الشاشة ..

تحريك متميز لأربعة ممثلين فاهمين جداً لطبيعة الأدوار والمشهد ، استغلال لنظرة العين وحركة الكاميرا وربما الإضاءة ، في مشهد شبه صامت خالٍ من موسيقى "مودي الإمام" التي لطالما كانت في رأيي من مميزات الفيلم - بعكس ما رآها آخرون - مشهد لو تم عمله على يد مخرج آخر لامتلأ بموسيقى تصويرية صاخبة في غير وقتها.. حتى "الطيب" كان يعرف متى "ينزل بالمزيكا" ومتى يتوقف..

"أحمد زكي" في مشهد من مشاهد العمر التي تذكرني بفينال "شفيقة ومتولي" مع مخرج كبير آخر هو "علي بدر خان".. "هالة صدقي" كما لم نراها من قبل رغم قصر مساحة الدور ، وممثلان كبيران لم يأخذا حقهما سينمائياً ، "عبد العزيز مخيون" الذي أختلف معه سياسياً وفكرياً في كثير ، لكنه يبدع في هذا الفيلم من بدايته لنهايته ، و "محمد وفيق" الذي لم تبتسم له السينما كثيراً فوجد عزاءه في التليفزيون الذي رد اعتبار مجموعة من الممثلين المجتهدين ..

ربما يعجبك الفيلم ، ربما لا يعجبك ، لكني أرى في هذا المشهد بالتحديد خلف هؤلاء مخرجاً كبيراً يعتني بتفاصيله ، ويوصل لك بتقنيات السينما ما لا تكفيه صفحات فلوسكاب من جمل الحوار.. أرى مخرجاً اسمه "عاطف الطيب".. رحمه الله ، ورحمنا جميعاً..
* الصورة من "صحبة نت"..

2 comments:

no way said...

الهروب من الافلام التي لا يمل من مشاهدتها رغم معرفتي بكل الاحداث

قلم جاف said...

في أحيان كثيرة قد تجعلك مشاهدة فيلم جميل ما لأكثر من مرة تعيد قراءته وتفهم تفاصيله ، في المرة الأولى تكون مدفوعاً للمتابعة بدافع انتظارك لما تسفر عنه "الحدوتة" ، ويحكمك الحدث بالتأكيد في متابعة الفيلم كما يحكمنا جميعاً ، لكن في الثانية بعد أن تكون قد عرفت القصة ومستقرها ومستودعها تبدأ في مشاهدة الفيلم بشكل آخر ، تقرأ الشخصيات ، تفهم التفاصيل ، تربط بين قطع الموزاييك ، لتشاهد فيلماً لم تشاهده من قبل!

هذا ما يتكرر معي في أفلام كـ"العار" و "أرض الخوف" و "القاهرة 30" وأفلام مصرية وأجنبية أخرى..