Saturday, April 07, 2012

والصورة تخدع .. كثيراً: جزء أول

إذا كانت التيارات الدينية تبيع لك القصص التي تحكى على المنابر رغم استحالة تحقيق العديد من مثالياتها ، فإن التيار الليبرالي في مصر (والليبرالية المصرية الحالية ليبرالية اقتصاد وليست سياسة أو ثقافة فما تفرحوش قوي) يبيع لك صورة مصر في أفلام "نجيب الريحاني" ، واليسار والناصريون يبيعون لك صورة مصر في أفلام فترة الستينيات .. وفي كل مرة يحاول هؤلاء إقناعي وإقناعك بأن تلك كانت الصورة الحقيقية للبلد بمن فيها ، وهو كلام أقل ما يقال عنه أنه "هبل" وكلام فارغ..

1-لنعترف ، أولاً ، بأننا كعالم عربي من المحيط إلى الخليج نعاني من تجاهل تام لما يمكن تسميته بـ"التأريخ الاجتماعي" .. أبسطهالك : نحن نعرف من التاريخ أحداثه الهامة والمواقع الحربية والمعاهدات وخلافه ، والأبنية التي نراها وتتركها كل حضارة حولها ، لكننا لم نكلف عقولنا بالسؤال عن حال الناس في ظل تلك الحضارات ذات الأبنية الضخمة الجميلة في مظهرها الخارجي ، من العادي جداً أن تكتب كتب التاريخ عن دول وعصور ذهبية على الأصعدة العسكرية والعلمية والفكرية والثقافية والاقتصادية في حين أن شعوب تلك الدول كانت تعيش في فقر وجهل وتخلف وظلم وغياب كامل للعدالة الاجتماعية.. تذكروا حالة مصر ما قبل 1952.. صورة جميلة في الأفلام والصحافة وصورة بشعة في الواقع تتحدث عن جهل ، وأمية منتشرة ، وانعدام للعدالة الاجتماعية ، ووجود أسوأ صور الاستغلال للعمالة الزراعية وأحياناً للعمالة الصناعية ، بل وفي بعض الفترات الترخيص بالدعارة من أجل "الترفيه عن الجنود الإنجليز"!.. وفترة الستينيات لم تكن كلها إيجابيات كما يسعى ستينيو الهوى لإقناعنا بها..

2-لنعترف ، أيضاً ، بأنه من الممكن أن نعتبر أن ما تم إنتاجه في تلك الفترات من أعمال فنية يمكنه أن يعكس جزءاً من الصورة التي كان عليها المجتمع المصري.. وليس كلها.. يمكن أن أحصل على فكرة معقولة نسبياً عن اللغة الدارجة في تلك الفترة ، عباراتٍ ونطقاً ، والمصطلحات الشائعة في التعبير عن "مودات" مختلفة ، استحساناً واستقباحاً وجداً ومزاحاً ، وحتى نوعية الشتائم التي كانت مستخدمة في تلك الأفلام..

3-ولنعترف ، إلى جانب ما سبق ، بأن النظرة العامة للفن ، والظروف المصاحبة لإنتاجه ، تختلف عما نحن عليه الآن.. بالرجوع لأفلام فترة الأربعينيات على سبيل المثال ، كان المنتجون يتمثلون بالنهج الهوليوودي في صناعة أفلام يرونها منافساً لأفلام "كلارك جيبل" و "تايرون باور" ومعاصريهما ، وحتى عندما كانوا يقدمون أفلاماً استعراضية ، إلى درجة جعلت النقاد يربطون بين أسماء مصرية ونظيراتها في هوليوود تلك الفترة ، كما كان الحال مع "منير مراد" - الملحن الشهير وشقيق "ليلى مراد" - الذي أسماه نقاد وصحفيون "فريد أستير الشرق" نسبة للنجم الاستعراضي الأشهر في تاريخ هوليوود ، لتشابه التجارب الاستعراضية المحدودة لـ"مراد" التي تشبه مع فوارق كبيرة نظيراتها الأمريكيات..

ولكي تقدم فيلماً جميلاً عليك بالذوق وبالعافية أن تقدم واقعاً جميلاً ، حتى بعيداً عن فكرة أن الجمال قيمة في الفن في حد ذاتها ، وأن الفن -مهما حاول أن يعكس الواقع أو حاول جعلك تفهمه أو تتقبله أو تثور عليه - لا يجب أن يكون نسخة من الواقع بنسبة 100% ، كثير من الأفلام تتناول على سبيل المثال الطبقة الأرستقراطية بقصورها المنيفة وحياة أهلها المرفهة ، ففي تقدير منتجي تلك الفترة كان المشاهد يذهب ليستمتع برؤية عالم أجمل من عالمه الحقيقي ، وحتى عندما تناولت الطبقة الوسطى والطبقات الفقيرة حرصت أيضاً على أن يكون تناولها جمالياً أيضاً ، لا أزعم أن بعض الناس وقعوا في غرام الفقر كما صوره فيلم "لعبة الست" (1946) ، وهو يختلف كثيراً عن الفقر الحقيقي الذي كانت تعيشه أسر أخرى في أماكن أخرى بعيداً عن عالم الأفلام اللذيذ.. هذا عن الذوق..

أما العافية فتذكر أنه كانت هناك رقابة ، ورقابة حادة كالسيف ، وكانت تصرفاتها غريبة ، ولكن محكومة بسياق الزمان ، كما فعلت الرقابة مع فيلم "لاشين" (1938 ويقال 1939) الذي منعته بدعوى شبهة الإساءة إلى الذات الملكية ، رغم أن من يشاهده الآن يفهم أشياء أخرى تختلف.. وفي الستينيات كانت قبضة الدولة البوليسية قد اشتدت ، ومن الطبيعي أن تزداد صرامة الجهاز الرقابي أيضاً.. ضع بعين الاعتبار أيضاً أنه كان من غير المقبول أن تقدم أفلام تحرض الناس على ثورة بحق وحقيق ، ولا توجد طريقة أسهل لتحقيق ذلك الغرض سوى أن تقول للناس الحقيقة (أو تستنى لحد ما الفترة تخلص وتيجي اللي بعدها وتقولي كل اللي انت عايزه).. أن تذهب إلى أماكن الفقر وتسجلها لتصدم بها أعين الناس المحافظين في ذلك الوقت ، أو حتى من يسعى للتسلية لا أكثر ولا أقل.. علماً بأن الشرائح المحافظة لن تكون سعيدة بما يكفي عندما تصدمها بعنف بواقعها كما هو .. فالشتائم المتداولة في تلك الفترة ، بعضها بذيء جداً بالمناسبة، والتي لم نعرف عنها شيئاً بفعل الرقابة والمجتمع المحافظ وأشياء أخرى، بما أن المستند الوحيد الذي يوثقها في أيدينا هو الأفلام والمسرحيات "ما سجل منها إذاعياً" .. وبالتالي فإن "الواقعية" كما قدمها بعد 1952 "صلاح أبو سيف" لم تكن مرحباً بها إذا ما تم تقديمها في 1952 ولو قبل الثورة بأسبوع..

الآن ..الحمد لله ، الذي لا يحمد على مكروه سواه ، فقد تطور الوضع من النقيض إلى آخر النقيض ، كلما كان الفيلم أكثر قبحاً ، وقباحة ، كلما كان واقعياً بامتياز ، وكلما تم قطع الشعرة ما بين الحد الأدنى المشروع من جماليات الفن وبين التسجيل الحرفي للواقع بمنشار كهربائي كلما كان أحسن ، وكلما كان صانع الفيلم فجاً و "دجَّاً" كما يقول الأشقاء في بلاد الشام كلما كان عبقرياً ، ولنا في "خالد يوسف" و "خالد الحجر" ما يغني عن مزيد بيان.. وأيضاً - سبحان الله - ستصل إلى نفس النتيجة ، وستكتشف أن تلك الأفلام أيضاً لا تعبر عن مصر التي ليست كلها "مارينا" وليست كلها مناطق عشوائية ، في الوقت الذي يقول لك المخرجان المذكوران وأشياعهما في الصحافة وخارجها أن سينماهما تعكس مصر ومن يقول غير ذلك فهو كذا وكذا ..

خلاصة القول ، جميل أن تذكرك الأفلام والأغاني القديمة بجانب من الماضي الذي هو بالتأكيد أجمل في بعض جوانبه من الآن ، لكنها ليست مستنداً يمكنك على أساسه اختيار مشروع سياسي يحكم حاضرك ومستقبلك ، كثير مما كان يصلح بالأمس لا يصلح اليوم ، وكثير مما يمكن عده ضرورة حياة في الوقت الراهن سيعفُ عليه الزمان في يوم ما.. ولعله قريب..
* الصورة من الفيس بوك..

No comments: