Saturday, April 07, 2012

والصورة تخدع .. كثيراً : جزء ثان

في التدوينتين السابقتين تحدثنا عن استخدام الساسة الأفراد للصورة في شكلها المجرد للتسويق لأنفسهم ، واستخدام المجموعات السياسية للصورة في شكلها الدرامي السمعي البصري لتسويق نفسها ، تذكروا أننا لا زلنا نتكلم عن نفس البلد .. هل تستعمل دول أخرى الصورة لتسويق نفسها؟

الإجابة نعم ، وبالتأكيد..

الدول كالساسة والشركات ، تسعى هي الأخرى لتسويق نفسها ، تسويق صورتها السياسية وتسويق "قيم مجتمعها" من حرية سياسية واقتصادية واجتماعية كما هو الحال بالنسبة للسينما الأمريكية ، أو التعدد الثقافي كما يفهم البعض من السينما الهندية (رغم ما شاب بعض الأفلام في السنوات الأخيرة من نعرات عنصرية)، تسويق صورة المجموعة الحاكمة الدينية كما في السينما الإيرانية ، أو العالمانية أو المتعلمنة كما في الدراما التركية ، أو حتى الصورة السياحية كما في السينما الهندية وأحياناً المسلسلات التركية ، بما أن سمعة الأفلام التركية في مصر لا تزال سيئة ، مقارنة بالمسلسلات.. بل إن بعض النقاد خارج مصر يتهم السينما المصرية في العصر الناصري بالتسويق للفكر الناصري أيضاً..

يرى كل هؤلاء على اختلاف أماكنهم ومشاربهم في الفن قوة ، قوة الاستيلاء على عينيك وعلى عقلك ، الاستيلاء على عينك بما تراه من مناظر خلابة وأجواء بديعة ووجه حسن بالتأكيد، والاستيلاء على عقلك بما تراه من أنماط وثقافات هي "وش القفص" في تلك المجتمعات ، ويختلف هؤلاء عنا كعالم عربي في فكرة أننا - كما يرى البعض وأتفق معه جزئياً- "بتوع علاقات عامة" أكثر من اللازم ، نجعل من فكرة "سمعة البلد في الخارج" قيداً يستعمل بشكل سيء ولا أخلاقي أحياناً على حرية التعبير داخل البلد ، ونفرضها فرضاً على أعمال هي للاستهلاك المحلي باعتبار أن المشاهد في الخارج قد يطلع عليها (وبيني وبينكم هو بيطلع عليها كتير) ، لا وسط إذن ، إما أن نبيع خيالاً صرفاً للشعب خشية كلام الناس - اللي لا بيقدم ولا يأخر من وجهة نظر "جورج وسوف" (1)- أو نبيع لهم أسوأ ما في الواقع فنصبح أحلى موضوع لكلام الناس.. ولكل سكة من يتربح منها ويعمل أحلى أحلى سبوبة..

الخارج مهم للدول والحكومات كأهمية الداخل ، لا توجد دولة في عالم اليوم ، ولا حتى في عالم الأمس ، تستطيع أن تعيش بمعزل عن الغير أياً كانت قوتها وما تمتلكه من موارد اقتصادية وتكنولوجيا متقدمة ، في كل يوم يزداد العالم تشبيكاً وتشابكاً ، الخارج هو سوق لمنتجات الدولة ، وأفكارها ، ونموذجها السياسي والاقتصادي والاجتماعي ، والخارج "القريب" أو الدائرة المحيطة هي عمق استراتيجي للدول ، ومناطق نفوذ سياسي واقتصادي وديني لها .. الأمريكان مثلاً ، رغم أن سينماهم كانت تجتاح العالم ، عاشوا ما أسموه بأيام العزلة عن العالم الخارجي ، سواء أكانت عزلة سياسية أو جغرافية بحكم إحاطتها شرقاً وغرباً بمحيطين كبيرين ، لكن مع دخول الأمريكان الحرب العالمية الثانية ، وتوابع "بيرل هاربر" ، ثم ظهورها كقوة عظمى ، ثم الحرب الباردة ، رأوا أنه لكي يبقى نفوذهم وتستمر قوتهم يجب أن يكون لهم في كل "مكان ما" عفريت ، لأن كل مكان ستتركه سيذهب إليه تلقائياً المنافس -الاتحاد السوفييتي السابق - الذي يفكر بنفس الطريقة ويبحث عن نفس مناطق النفوذ .. ومع إحساس دول أخرى بقوتها وحجمها ورغبتها في أن تكون فتوة و"كوماندا" بدأت هي الأخرى تسلك نفس المسلك ، تبحث "إيران" عن تصدير الثورة وتحسين سمعة الملالي ، بخلطة يصفها أستاذي الناقد "أسامة القفاش" بالدعائية ، تجعل "تركيا" من دبلجة المسلسلات واستحداث خدمة تليفزيونية ناطقة باللغة العربية جزءاً من سياسة تمددها نحو الشرق ، الذي تبحث فيه عن دور يستحيل أن تتمتع به داخل أوروبا ، وتستعيد من خلاله أوهام الإمبراطورية العثمانية حيث كانت تركيا بالصلاة على النبي تحتل كل تلك الدول التي تصل إليها مسلسلاتها الآن..

للصورة قوة ونفوذ وسر باتع ، نجحت الأفلام الأمريكية في أن ترسم صورة يصفها النقاد اليساريون - نقلاً عن آخرين -بـ"الحلم الأمريكي" ، جذبت إليها عديد المهاجرين من كافة أصقاع الأرض ، تماماً كمن بنيت عليهم أسس الإمبراطورية الأمريكية قبل قرون ، جل هؤلاء وفدوا ليس هرباً من اضطهاد ديني أو مذهبي ، أو سعياً وراء حمى الذهب التي صاحبت الفترة الأولى من تاريخ الولايات المتحدة كما كان الحال مع أوروبيين كثر، بل على حس الحلم الأمريكي الذي صنعه لديه ما شاهده من أفلام في فترات سابقة (رغم أن هناك أفلاماً أمريكية تنتقد فكرة الحلم الأمريكي نفسه بشكل جاد أو تهكمي) ، ويتخيل من هذا الجل نسبة كبيرة من الناس أنه سيعيش فيلماً أمريكياً هوليوودياً بكافة مشتملاته ، تماماً كمن يعتقد حين سفره لإجازة لـ"تركيا" - إن سمحت له إمكانياته بذلك - أنه سيرى "مهند" و "سمر" في شارع ما هناك ، أو العالم المبهر الذي تقدمه بوليوود في أفلامها بمجرد النزول في مطار "نيودلهي" (ينسى معه مشاهد الفقر الذي تقدمه بوليوود لمغازلة جمهور السينما الهندية الضخم داخل الهند والمكون معظمه من فقراء).. شغل البروباجاندا وألعاب الصورة إذن "بيجيب نتيجة".. بدليل أنه قد أصبح للأردوغانية في مصر جمهور كبير وفي زمن قياسي، دون التفكير فيها وعرضها من كافة زواياها ، وتحول "رجب طيب أردوغان" إلى زعيم لم تنجبه الأمة العربية من قبل ، ولا تختلف رؤية البعض لـ"أحمدي نجاد" كثيراً..

..رغم أن الصورة لا تعكس جزءاً كبيراً من الحقيقة ..

اسأل كل من بنى فكرته عن نظرية أو فكرة أو بلد على حلم ، والصورة لدى البعض حلم ، أو كابوس لمن يريدها هكذا.. حتى يصطدم بحقيقة قد تنسف كل تصوراته نسفاً.. اسأل من عاش التجربة ، وستعرف ، وسترى أشياء..

ستسأل بالتأكيد : وماذا عنا؟

أيضاً سأجيبك بنفس نظرية اللاوسط ، السليق أو الحريق ، كان لدينا الفن كله موجهاً في فترة الحكم الناصري ، كل أدوات الفن من إذاعة معتمدة وموسيقى وسينما تقريباً كانت في يد النظام الحاكم ، قام باستغلالها كلها لتسويقه والدعاية له ، إلى أن اهتزت الصورة في 1967 وتوابعها ، بعدها مع الوقت بدأت اليد الحكومية تخف ، ظهر الكاسيت كمؤسسة موازية للإذاعة ، وظهر الفيديو كمؤسسة موازية للتليفزيون ، وظهرت شركات الإنتاج الخاصة في السينما فتفرغت الدولة للتليفزيون الذي كانت تحتكر خدماته أرضاً وفضاءاً ، صعد المال السياسي وأصبح لديه من المال ما يكفيه لإنشاء فضائيات وصحف وإنتاج مسلسلات وأفلام ، ولم يعد هناك "لاعب أوحد" في الحكم في مصر ، يتحلق حوله آخرون يستفيدون منه سواء مثقفون أو رأسماليون .. ضعفت الدولة و "هكعت" ووصل التهكيع إلى مستوى الإنتاج التليفزيوني ، والسينمائي-التليفزيوني (كالجرائم السينمائية من عينة "رجل له ماضي" و "أبناء الشيطان").. طالب بعض المثقفين ذوي الميول اليسارية والناصرية من الدولة أن "تنتج" و أن "تنقذ البلاد من الهوة السحيقة من الإسفاف والابتذال" و..و... اجتراراً لإرث الحكم الناصري ، لكن لا التجربة الناصرية نجحت أو استمرت حتى تتكرر بحذافيرها (كله عايز يكرر الماضي بحذافيره.. معقولة ح أفكركم برضه بالكلام دة) ، ولا كان لدى الدولة في الحكم المباركي شيئاً لتسوقه سوى صورة النظام ، للاستهلاك المحلي طبعاً..

وبطريقة أو أخرى أسهمت الصورة في مصر في جعل سمعة هذا البلد أسوأ ما يكون ، من تطرف في "الذواق" إلى تطرف في "اللغمطة".. ولدينا بالمناسبة خلل كبير في صناعة الصورة نفسها ، يعني ياريت الصورة كانت عدلة ، سواء على مستوى السينما أو التليفزيون ، حتى عندما تطورت مواصفات الصورة في التليفزيون ، وأصبحت تبدو كصورة السينما صارت تقوم بالتخديم على منطق غبي يفسد لك كل ما بذل من مجهود في المواصفات والألوان..

الصورة التي اعتقد البعض أنها يمكن أن تزغلل عين الآخر فترى السوء حسناً قامت بتسويد الدنيا لدرجة الكلوح في عين أهل الدار ، سلاح ارتد إلى نحرنا وقنبلة انفجرت في وجوهنا جميعاً..

سيتطلب الأمر ، على أي حال ، منا أن نتعامل مع الصور الوافدة إلينا بعقلانية لا انبهار ، ومن صناع الصورة في مصر أن يحترموا عيوننا وعقولنا أيضاً ، كي يستطيعوا كسب احترام الآخرين لهم ولما يقدمون ،ولنا أيضاً.. أتمنى أن أكون قد أوصلت الفكرة بشكل صحيح في هذه التدوينة أو في التدوينتين اللتين سبقتاها .. دمتم بكل ود..
(1) الموديل في أغنية "كلام الناس" لم تكن سوى "روبي" .. "سيرين عبد النور" يعني!
* الصورة لـ"كيفانش تايتولونج" و "بيرين ساات" أو "مهند" و "سمر" (وحالياً "فاطمة جول") من موقع مجلة "كلمتنا"..

No comments: