Monday, April 23, 2012

الليلة الكبيرة : صنعها "جاهين" و"مكاوي" و"السقا" .. وأبقاها التليفزيون في الذاكرة

للمرة الثانية هذا العام أكتب عن العرائس..

أول من أمس ، الحادي والعشرين من أبريل ، احتفلت "أغاني اف ام" بقمتين وقامتين فنيتين عاليتين مصريتين هما "سيد مكاوي" و "صلاح جاهين" الذي تصادف وأن توفيا في نفس اليوم ، توفي "جاهين" أولاً عام 1985 ، ولحق به "مكاوي" بعدها باثنتي عشرة سنة عام 1997 .. ويجمع الاثنين قواسم مشتركة عديدة..

كلاهما تمتع بروح مصرية ، انعكست على أعمالهما أكثر من غيرهما في رأي كثيرين ، "جاهين" الشاعر والزجال متعدد المواهب عكس نظرة المصري للحب والحياة بلغة شديدة البساطة سريعة الوصول إلى قلب قرائها وسامعيها ، و"مكاوي" اعتمد في موسيقاه على روافد مصرية خالصة استوحاها من ولعه واهتمامه الشديد بالإنشاد الديني منذ نعومة أظفاره ، وبالمدرسة المصرية التقليدية في التلحين بعيداً عن تيارات التجديد وعن تيارات التغريب أيضاً كما يصفها البعض.. فخرجت موسيقاه تعكس ليس فقط ما تريده أذن المستمع المصري ، بل ما يشعر به ، باعتبارها أيضاً انعكاساً لروح المكان وسكانه.. وكلاهما أيضاً ظُلِمَ نقدياً ، فالأول والحمد لله تكفل كتبة الأعمدة باختزاله في الرباعيات والرسوم الكاريكاتيرية وبعض الأغاني فقط ، وأغفلوا كونه كاتباً كبيراً للسيناريو كان صانعاً لأعمال سينمائية هامة منها "عودة الابن الضال" الذي أراه أحد أهم أفلام "شاهين" ، و"شفيقة ومتولي" الذي كان انطلاقة لمخرج كبير هو "علي بدرخان".. ، ولم يلقَ "مكاوي" اهتماماً إعلامياً يتناسب وقدراته وتاريخه الموسيقي الكبير رغم كونه من القليلين الذين لحنوا لـ"أم كلثوم".. وكلاهما ، على ما مر به من كآبات واكتئابات ، كان خفيف الظل ، وانتقلت خفة الظل والروح المرحة إلى أعمالهما ، سواء ألحان "سيد مكاوي" أحد ظرفاء عصره خفيفة الروح ، أو أشعار "صلاح جاهين" التي كتبها لـ"سعاد حسني" ولفريق كبير من فرق الثمانينيات اسمه "المصريين"..لم تغرب شمسه إلا بغروب شمس "جاهين" عن هذا العالم..

العمل الأهم الذي جمع الشاعر الكبير والموسيقار الكبير كان عملاً كبيراً ، فكرة مبتكرة وغير مألوفة ، أن تحول صورة غنائية إلى استعراض للعرائس : "الليلة الكبيرة".. المتوقع أن يتم تحويل الصورة الغنائية إلى شريط سينمائي أو تليفزيوني (مثل "الدندرمة" حين تحولت لاستعراض تليفزيوني مع بدايات التليفزيون في الستينيات) ، لكن تحويلها إلى مسرح العرائس كان مغامرة حققت نجاحاً مدوياً يصعب تكراره..

اعتبر كتاب أعمدتنا المسلون للغاية "الليلة الكبيرة" "أوبريتاً" ، وهي ليست كذلك.. الأوبريت مسرحية صغيرة ، ذات طابع غنائي ، يجمع ما بين الحوار المسرحي العادي والحوار المُغَنَّى ، وعرفه الفن المصري على يد أسماء منها "سيد درويش" و"بديع خيري" أصحاب "العشرة الطيبة".. أما "الليلة الكبيرة" فكان أصلها "صورة غنائية" ، لون غنائي مصري ارتبط بالإذاعة (لأن مصر لم تعرف التليفزيون قبل 1960) ، مجموعة من الأغاني مرتبطة ببعضها البعض في موضوع يصور حالة معينة ، كحالة المولد في "الليلة الكبيرة" أو قصة معينة كـ"عوف الأصيل" ، ولا يمكن تصنيفها كأوبريت أصلاً لأنها لم تمثل على المسرح..

بالتأكيد نعرف من صناع"الليلة الكبيرة" الكبيرين "صلاح جاهين" و "سيد مكاوي" ، وبالتأكيد مخرجه الكبير والأب الروحي لمسرح العرائس في مصر "صلاح السقا".. لكن كان إلى جانبهم أيضاً أسماء أخرى كمخرج الصورة الإذاعية الأصلي "عباس أحمد" الذي تم تحويل عمله بعدها بسنوات إلى "الليلة الكبيرة" التي نعرفها ، ومخرج تليفزيوني في بداية الثمانينيات أعتبره هو السبب الرئيسي في نجاح "الليلة الكبيرة" بالنسبة لأجيالنا.. "محمود بيومي"!

نعم ، مستغربين ليه؟

الأوبريت ينقل لك حالة ، تتخيلها كأنك تتخيل فيلماً أو مسلسلاً ، وكلاهما تراه في شاشة كاملة ، تتخيل نفسك جزءاً منها ، هذا لا يتحقق في العادة في مسرح العرائس إذا ما شاهدته في التليفزيون بحجمه الذي هو عليه في الحقيقة ، عادةً ما يشغل مسرح العرائس مساحة صغيرة على خشبة المسرح ، خصوصاً إذا كانت عرائس ماريونيت يتم تحريكها من أعلى .. ولا يستطيع التليفزيون أن ينقل شيئاً كهذا بحجمه الطبيعي (1)، إلا إذا غاصت الكاميرا في قلب مسرح العرائس لتظهره في ملء الشاشة.. (2)..

لم تنقل الكاميرا التليفزيونية مجرد شيء يحدث في مساحة صغيرة على مسرح ، بل حالة المولد بكامله (3)، بشخصياته التي رسمها وأدارها "السقا" وطاقمه ، والكاميرا تتعامل مع تلك المساحة الصغيرة - حسب افتراضي- كما تتعامل مع المسرح العادي الذي يمثل عليه ممثلون عاديون ، تقطع لتحسسك بالمساحة هنا وهناك ، وتتحرك ، كما نراها ، من مكان لمكان داخل المولد ، بائع الحمص ، القهوة ، لاعب النيشان ، ...الخ.. كأنك تشاهد مسرحاً متحركاً ، يتحرك فيه الديكور من لوحة إلى الأخرى ، ولا ترى بالتأكيد العرائس المخصصة لكل لوحة وهي تختفي لتنزل مكانها أخرى ، بمعنى أصح ، تعطيك الكاميرا باختصار شديد احساساً كأنك تمشي في المولد أو كأنك تشاهده..

بالتأكيد كانت "الليلة الكبيرة" أهم عمل في تاريخ مسرح العرائس كله ، والمقارنة بينه وبين النسخة التي تحولت إلى استعراض عادي بتوزيع السيد "جمال سلامة" تماماً كمقارنة "برشلونة" و "ريال مدريد" بأي فريق درجة ثالثة محلي ، لكن المشكلة الكبيرة أن ذلك الفن لم يتحرك أبعد ، ربما لم تساعد الإمكانيات ولم تساعد متغيرات الزمن ، وقلت جاذبية المجال لكثيرين لم يستطيعوا تعويض رحيل "السقا" وتلامذته "نجلاء رأفت" و "محمود رحمي" ، ولم تفتح "النفس" لإدخال تكنولوجيا أحدث في هذا المجال، لم تتطور حتى أشكال العرائس بالشكل الذي يجذب عيون الأطفال ، الجمهور الأكبر لمسرح العرائس عادةً في مصر ، يذوي مسرح العرائس شيئاً فشيئاً ، وأكبر ذكرياتنا عنه هو "الليلة الكبيرة" التي وإن نجحت بكتابها ومخرجيها ، فإن التليفزيون هو من أبقاها في الذاكرة أكثر ، لنتذكرها ، ونتذكر أيضاً أصحابها .. دمتم بخير..
حواشي:(1) كتبت هذه التدوينة بفرضية أنه حين صورت "الليلة الكبيرة" تليفزيونياً في الثمانينيات كانت خشبة مسرح العرائس الصغيرة منصوبة على مساحة صغيرة أيضاً على المسرح ، هذه الفرضية استنتجتها من معلوماتي البسيطة عن مسرح العرائس ومن التسجيل التليفزيوني ، أرجو من كل زائر لديه معلومات أكثر عن "الليلة الكبيرة" وملابسات تسجيلها تليفزيونياً أن يصححني إن كانت فرضيتي خاطئة ، وأنا تحت أمره في أي تصحيح..
(2) نفس المشكلة تظهر حين ينقل التليفزيون مباراةً في تنس الطاولة ، وهي من أصعب الأحداث التي تنقلها كاميرا التليفزيون بحيث يمكن للمشاهد العادي مشاهدتها بأريحية..
(3) يبدو أن حالة "الليلة الكبيرة" كانت ملهمةً فيما يبدو لفنانين كبار آخرين ، الموسيقار "علي إسماعيل" مثلاً في فيلم "مولد يا دنيا" وهو يلحن لوحة "المولد" التي اختارها "حسين كمال" مخرج الفيلم لتكون تمهيداً للأحداث وتعريفاً للشخصيات ، وكذلك "كمال الطويل" وهو يلحن لوحة المولد في "شفيقة ومتولي"..
* الصورة من وكالة الأنباء البحرينية..

No comments: