Thursday, April 15, 2010

1-"هريدي".. وكل "هريدي"..


أشعر في كل مرة أشاهد فيها رائعة "صلاح أبو سيف" "الفتوة" أن الفيلم به حاضر غائب كبير .. ألا وهو "محطة مصر"..صحيح أن هذا المكان الذي لم أشاهده على الطبيعة سوى مرتين من أصل سبع زيارات للعاصمة المدللة في حياتي كان "الحاضر الحاضر" في فيلم هام أيضاً هو "باب الحديد".. إلا أن "محطة مصر" كانت هي "الفتوة" في "الفتوة".. مجازاً يعني..

"محطة مصر" هي المكان الذي يلتقي فيه الملايين من المصريين يومياً .. الذاهبين إلى قراهم ومدنهم من العاصمة وبالعكس .. وهو معين لا ينضب بالنماذج البشرية المختلفة التي تسيل لعاب أي مؤلف سيناريو مهما كان حجم موهبته.. قد يرى البعض في الطريقة التي يكتب بها أولئك الكتاب عن تلك الشخصيات نظرة فوقية بحكم كون الكتاب قاهريين أو أبناء جيل ثان أو ثالث من عائلة إقليمية عاشت في القاهرة ، لشخص أو أشخاص يعتبرون القاهرة هي غاية المنى وعين المراد .. عن نفسي لا أراها كذلك..

اعتمد صناع "الفتوة" في كتابتهم للفيلم وتصميمهم للشخصيات على أشياء لها أصولها في الواقع .. فاختاروا الشخصية الرئيسة "صعيدياً" رمزوا له باسم يذكر به الصعيد إلى ساعة كتابة هذه السطور -"هريدي عمران" - بكل ما "يسمَّع به" الصعيد في ذاكرة المشاهد من أشياء إيجابية كالنخوة والكرامة و..و..إلى آخر قائمة الصفات التي تتواجد في كل الأوساط بغض النظر عن موقعها الجغرافي ، وأشياء سلبية مرجعها الأول هو عدم تفهم غير الصعايدة لظروف الصعيدي القادم من مجتمع آخر بعيد عن مجتمع العاصمة.. وليس لعيب في شخصية الصعيدي نفسه..وعن حقيقة واقعة هامة وهي النجاح - اللافت - للصعايدة كتجار في الأماكن التي هاجروا إليها كالقاهرة والإسكندرية ، وسيطرتهم شبه الكاملة -وقت صناعة الفيلم حسب علمي المحدود وربما إلى الآن- على سوق تجارة الخضر والفاكهة ، وعلى قلبه -"سوق روض الفرج" الذي أصبح لاحقاً "سوق العبور"..

لكل مدينة كبيرة سحرها الأخاذ وجاذبيتها ، فما بالكم لو كنا نتحدث عن العاصمة سواء العاصمة السياسية -"القاهرة" أو "باريس"- أو ما في حكمها -كـ"لاجوس" أو "نيويورك"- ، عن القلب ، قلب الرزق ، والثروة ، والشهرة ، قلب البلد النابض ، عن الشمس التي تدور حولها كل الكواكب في مدارات محددة ، والشاطر من يقترب ويخترق .. دون أن يحترق.. ولم يكن "هريدي عمران" من ذلك الصنف من البشر..

كان لدى الرجل حلم بسيط في أول الأمر ، مكان تحت الشمس في قاهرة "المعز لدين الله الفاطمي"- مع الاعتذار لـ"بوحة"- لكن بعد أن اقترب من الوصول لحلمه تغيرت الخطة وتبدلت الأحلام ، عندما رأى من كانوا مثله ذات يوم كباراً يحكمون ، يأمرون فيُطَاعون ، عندما خطف بهرج الثروة والنفوذ بصره وبصيرته ، تحول تدريجياً إلى ذلك المتمرد المتنمر لفطرته البسيطة أولاً.. ولمن علا ووصل على أكتافهم ثانياً.. حتى سقط .. وعاد كما بدأ.. قصة أشبه بقصص الوعظ التي تحكى في السير الشعبية وفي حفلات السامر في الريف والصعيد .. لكنها تحمل عظة حقيقية ودرساً لمن يرى.. وهو ما صنع جزءاً كبيراً من جاذبيتها لممثل نجم كـ"فريد شوقي" بما مثله للمشاهد المصري والعربي من صورة "شجيع السيما" الذي لا يُهزَم ولا يُقهَر ، رغم أن الدور على العكس من ذلك ، ولمشاهدي الفيلم إلى يومنا هذا ، مدعومةً طبعاً باستخدام مبتكر ومبهر للمكان من قبل مخرج أول حرف من اسمه "صلاح أبو سيف".. وفريق رائع من الممثلين والفنيين والتقنيين..ونجاح الفيلم أبهر عدداً من صناع السينما والدراما التليفزيونية لكتابة أشباح لـ"الفتوة".. كمسلسل "سوق الخضار" الذي كتبه "عبد المنعم شطا" وأخرجه "محمد النقلي" وقامت ببطولته "فيفي عبده" وأناس كثيرون..

إلا أن نسخ "هريدي عمران" في الحياة تختلف.. فمعظمهم هارب من شيء ما إلى شيء ما آخر .. من الفقر إلى الثروة ، ومن الاستضعاف إلى السلطة .. "هريدي" لم يكن مستعداً للتنمر لكنه اكتسبه لضعفه الإنساني ، لكن "غيره" ترك قيمه وأخلاقياته وراءه في بلدته ، وعاد ليتنكر لكل شيء ، ليحسب نفسه على الأرض الجديدة رامياً جذوره التي "يتفشخر" بها حين تدق ساعة المصلحة..

صحيح أن "هريدي عمران" كان ذلك البسيط محدود التعليم عديم الخبرة ، الذي وضع تحويشة العمر في صندوق البريد في قلب الشارع تطبيقاً لما فهمه من رأي سمعه يوماً ما عن "التحويش في البوسطة".. لكن غيره جاء متعلماً ، مثقفاً ، لعب في سوق الخضار ، أو في سوق الكلام ، أو في أي سوق من تلك التي تزخر بها مدينة "غول" بحجم "القاهرة".. كان "هريدي عمران" صعيدياً في الفيلم لأغراض فنية ، لكن النسخ الحقيقية جاءت من كل حدب وصوب ، من كل مكان بعيد عن القاهرة بل من القاهرة نفسها.. تلمحه حتى في شخصيات درامية أخرى كتلك التي أداها "عادل إمام" في أشهر أفلام سينما "الانفتاح" "حتى لا يطير الدخان" .. أو في شخصية شهيرة أخرى في سينما "صلاح أبو سيف" .. "محجوب عبد الدايم".. كلهم ليسوا بنفس الظروف .. لكنهم يحملون في طيات أنفسهم نفس الحلم ، ونفس "النمردة".. وربما يؤولون لنفس المصير..الله أعلم..
*أفيش الفيلم من jr7i.com

No comments: