Saturday, July 24, 2010

بألف كلمة أو أكثر : درسان مصريان

الصورة بمعناها الصحفي بألف كلمة ، أما اللقطة السينمائية التي لا يستغرق وقتها بضع ثوان قد تحوي ما يفوق هذا العدد من الكلمات بكثير.. اكتفيت فقط بتقديم نموذجين بسيطين للقطتين هامتين جداً يوضحان هذه الفكرة..من فيلمين أحبهما جداً وأستمتع بمشاهدتهما والكتابة عنهما..

1-"محجوب عبد الدايم" .. إلى الأبد!



اللقطة الأشهر في فيلم "صلاح أبو سيف" "القاهرة 30".. فيلم من أهم أفلام هذا المخرج الذي ينافس دائماً على لقب أفضل مخرج سينمائي مصري مع "شاهين" و"حسن الإمام".. ولكل اسم من الثلاثة نقاط قوة ونقاط ضعف.. ويبقى هؤلاء مع كل الاحترام للآخرين الأكثر إثارة للجدل باستعراضنا تاريخ الصناعة السينمائية في مصر من أوله لآخره..

"القاهرة 30" كما نعرف مأخوذ عن نص لـ"نجيب محفوظ".. يقول البعض عن روايات "محفوظ" أنها متشعبة متعددة الخيوط .. لكن ضرورات الدراما ، بالسيناريو والحوار الذي اشترك في كتابته الكاتب ذو الانتماء اليساري "لطفي الخولي" -تغير موقف اليسار منه تماماً بعد "كوبنهاجن"-مع "وفية خيري" و"علي الزرقاني" و"صلاح أبو سيف" نفسه اقتضت أن يسير الفيلم على مسار واحد ، واختار صناعه مسار "محجوب عبد الدايم" .. البطولة المطلقة الأولى لـ"حمدي أحمد".. والذي آمن "صلاح أبو سيف" بقدرته على أداء شخصية بهذه المواصفات ..

على كل .. يؤمن بعض الناس بأن لـ"محفوظ" نظرية في اختيار أسماء شخصياته .. ومنها "محجوب عبد الدايم".. "محجوب" المهمش البعيد عن الضوء بفعل الظروف و"دائم" الابتعاد عن أي حلم أو هدف أو أي شيء.. يؤمن "محجوب" بأن لكل شيء ثمن ، وبأن من يستطيع الحصول على الشيء هو عادةً الذي يملك ثمنه ، كما ورد صراحةً في عبارة في بداية الفيلم ، وبالتالي لكي تحصل على الشيء في عالم تحكمه المصالح والصفقات ، فلابد - طبقاً له - أن تبيع .. تبيع خدماتك .. تبيع موهبتك .. تبيع جذورك وأصلك .. وتبيع شرفك..

ملخص الحدث ، ملخص الفلسفة المحجوبية ، ملخص "محجوب عبد الدايم" نفسه في تلك اللقطة تحديداً.. التي دارت على هامش زواجه بـ"إحسان شحاتة" الفقيرة التي أغرمت أول الأمر بـ"علي طه" "المناضل" "المثالي" ..الخ ، ثم مالت إلى "محجوب عبد الدايم" واعتنقت فكره..

الذي يبيع شيئاً واحداً يستطيع أن يبيع ألفاً ، ومن يبيع مبدأه من السهل عليه أن يبيع شرفه ، ممثلاً في صفقته مع "إحسان" وأهلها و"الباشا" - (=لعبه "أحمد مظهر" ضيف الفيلم) .. ولمن يفعل فعلة كهذه في الثقافة المصرية وصف دارج في العامية لم يجد "صلاح أبو سيف" أفضل منه ليصفه به بالصورة .. لا بالكلمة.. ولم يتطلب الأمر أكثر من ساعة ذات قرون معلقة على الحائط ، تشبه تلك التي استخدمت في فيلم "حلال عليك" لـ"عيسى كرامة" - سبق ذكره في تدوينة سابقة - ليضعها على ارتفاع مناسب من كراسي "أنتريه" الشقة التي يفترض أن يقيم فيها "محجوب" ، والتي يعقد فيها "قرانه" على "إحسان شحاتة" .. ليصطاد منها تلك اللقطة التي تعتبر من أهم اللقطات "الفصيحة" في تاريخ السينما المصرية..

تخيلوا معي لو أن تلك القصة حولت إلى فيلم في زمننا الحالي ، فاصل طويل من العبارات والإفيهات التي تصل إلى درجة الفجاجة ، لتصبح محوراً لتباهي البيه المخرج والباشا المؤلف بالتحرر في مواجهة "خفافيش النينجا" ، وموضوعاً مسلياً لبعض المراهقين الباحثين عن مشهد من إياهم في أي فيلم.. وحدث عن بهوات وباشاوات الصناعة اليوم خاصةً من الذين يدعون أنهم أصحاب فكر ولا حرج.. الذين لم يتعلموا من "صلاح أبو سيف" المخرج حسن فهم النص الذي يخرجه .. وحسن فهم آليات السينما التي تبقى صورةً وصوتاً..

2-"العار": الطريق إلى السرداب!



"علي عبد الخالق" أحد مخرجي "الصنعة" في سينما الثمانينيات .. لكن السينما في رأيي تحتاج إلى المخرج "الصنايعي" مثلما تحتاج إلى المخرج "المفكر" .. وعندما يتألق المخرج الصنايعي يمكنك مشاهدة فيلم جميل وممتع وراقي المستوى .. التألق الذي من عناصره عمل جيد من المخرج والمؤلف والطاقم الفني .. و"شوية توفيق"..

حتى وإن بدت هذه اللقطة غير مقصودة ، أو التقطت بشكل عادي وعفوي.. إلا أنها أوصلت لي كمتفرج رسالة في منتهى الخطورة كان من الممكن أن يتم توصيلها اليوم بركاكة فاضحة.. وليس بهذا الشكل الممتاز الذي رأيناه..

تدور فكرة الفيلم عن تاجر يعيش حياتين ، حياة "فوق" الأرض .. معلنة ..وسط الناس ، في الحي الشعبي المفعم بالروحانيات ، كتاجر شريف متدين حسن السمعة ، وحياة "تحت" الأرض .. سرية .. وسط صبيانه وأعوانه .. كتاجر مخدرات يختبئ وراء تجارته في لوازم العطارة.. حياة أخفاها عن أهله وذويه .. إلا واحداً هو "كمال" (=لعبه بتألق "نور الشريف") .. الابن الأكبر ومدير المحل والساعد الأيمن الذي يعيش "فوق" بين الناس ، و"تحت" .. في "السرداب"..

كان هو الوحيد الذي يعرف بحقيقة والده ، واستلزم الأمر أن يشاركه سره الشخصان الوحيدان اللذان يستطيعان مساعدته في صفقة مشبوهة ، واللذان كانا يؤمنان بأن أباهما هو تاجر العطارة لا تاجر "الصنف" .. ولكي يقنعهما "كمال" بالمشاركة في الصفقة المشبوهة كان عليه أولاً أن يمهد لهما الموضوع بالحديث عن صفقة "عطارة" تخص المحل الذي يديره "كمال" منفرداً تاركاً شقيقيه لأعمالهما المحترمة والمرموقة ، ثم يخبرهما بالحقيقة بكل صدمتها وقساوتها ، ثم يدخل معهما في مواجهة .. إما أن يخرج معهما إلى النور .. أو يسحبهما معه ..

إلى السرداب..

في حوار ، وجدل لا تخلُ منه أفلام "محمود أبو زيد" ، نجح في توريطنا كمشاهدين فيه في كل مرة نشاهد الفيلم ، يدور حوار يستعرض كل وجهات النظر "المحتملة" فيما يتعلق بدخول العملية من عدمها ، في مكان مرتفع ، غالباً سطح مبنى ، تكرر في بعض أفلام "علي عبد الخالق" الأخرى لاحقاً .. لا يخلُ من روحانية بآثار قباب عملاقة في الخلفية (ومحدش يسألني المكان دة فين لإني مش قاهري ومش عارف حاجات كتير في العاصمة)..هذا المكان المرتفع لم يكن في الفيلم سوى سطح المحل .. الذي يربطه بالمحل سلم ..

يتغلب منطق "كمال" .. وبالتالي ينجح في سحبهم إلى أرضه .. إلى محله .. إلى ملعبه .. إلى السلم الذي يظهر في اللقطة مؤدياً إلى سرداب .. وهو في الواقع إلى المحل بعد أن تبين لشقيقي "كمال" أنه مجرد ستار لعمل "الحاج عبد التواب" (=لعبه بجودة عالمية "عبد البديع العربي") رجل البر والتقوى .. "اللي مش مخلي حد نفسه في أي حاجة"!

ربما احتوى عرضي للقطتين على مبالغات .. وربما أعطيت لأشياء غير مقصودة حجماً يفوق حجمها جمالاً و فكراً.. لكن تبقى تلك على أي حال هي الرسالة التي وصلتني كمتفرج ، ويتحمل مسئوليتها كاملة المخرج في كل حالة ، وأرى أن المخرج في الفيلمين قدما لنا ، بقصد في الحالة الأولى ، أو بقصد أو بدون في الثانية ، لقطتين فصيحتين تذكرانا بقوة المنطق وسطوة الكاميرا.. أساس السينما يا سادة.. عذراً للإطالة..
*تحديث 26/7: أعترف بأني "اتلخبطت" عندما شاهدت فيلم "العار" أمس 25/7 على "OTV"ولم أر تلك اللقطة التي أردت الكتابة عنها تماماً والتي شاهدتها في عرض سابق للفيلم على قناة "أوربيت سينما" 2.. لدرجة دفعتني إلى تعديل تلك التدوينة ثم تراجعت..ربما تعرض بعض تلك الأفلام منقوصة أو غير كاملة على فضائيات ما كما حدث مع أفلام أخرى كثيرة لسبب لا أعرفه أو أن النسخة التي نعرفها ناقصة وبها مواضع حذف على غرار مسرحية "العيال كبرت".. مش عارف.. لكنني حاولت توصيل أقرب صورة للمشهد الذي شاهدته قبل أشهر وشاهدته بعد كتابتي لهذه التدوينة بعدة ساعات.. أنتظر أي تصحيح من قراء "فرجة" ومتابعيها في الموضوع وفي أي موضوع آخر..متفرج لوحده ما يصقفش :)
Image Credits:"القاهرة 30" (موقع "السينما دوت كوم") ، "العار" (موقع "نوكيا وورلد" نقلاً عن أحد مواقع تحميل الصور)..

3 comments:

آخر أيام الخريف said...

متألق كالعادة يا شريف ..أحييك

Hopiz said...

اعشق التدوينات التحليلية عن الافلام
وخاصة تدويناتك لغزارة معلوماتك
ولى سؤال قد تملك الاجابة عنه وتصحيح-اذا كان صحيح
السؤال:فى فيلم القاهرة 30 الفيلم كله ابيض واسود ماعدا مجموعه اللقطات فى حفلة الاميرة , اعتقد انها مقصوده لاظهار مدى فخامة الحياة الملكية, صحيح؟ولكن الى استغربته ان هذا الاسلوب غير منتشر فى السينما عامه ويمكن يكون اول حد يستخدم الاسلوب ده, ولا ايه؟؟
التصحيح, يمكن انت صلحتهفى فيلم العار, والمكان الى دار الحوار بين نور الشريف وحسين فهمى كان فى سطه بوابة المتولى فى مصر القديمة لانى زرت المكان ده
وشكرا

قلم جاف said...

العزيزة هوبيز:

بمناسبة اللقطات الملونة .. كلامك صحيح..

مش عارف زمنياً إن كان "صلاح أبو سيف" أول من استخدم الأسلوب دة في السينما المصرية بحكم إن السينما في الفترة دي ويمكن في فترة قبلها شهدت "تجارب تلوين" .. لكن يمكن دة الاستخدام الأهم والأكثر دلالة على الإطلاق..

العزيزة آخر أيام الخريف :

ربنا يخليكي .. وكل سنة والكل بخير .. ونلحق نشوف كام لقطة من مسلسلين اتنين علشان أعرف أكتب عنهم في رمضان بما إن العدد أضخم مما يتحمله عقل بشر!