Tuesday, November 09, 2010

تخاريف الحراك والفرجة : نظرة من قريب


العيب في من : في الحرية أم فيمن يحصلون عليها؟ .. هل من الخطأ الحصول على حريات أكثر أم أننا حصلنا بالفعل على الحريات الخطأ؟.. أسئلة أراها مشروعة ونحن نتكلم عن مصر بعد خمس سنوات من تعديل المادة السادسة والسبعين من الدستور ..التي أرخت لمرحلة سيذكرها التاريخ باسم "الحراك السياسي"..

لم يأت الحراك السياسي نتيجة مطالب من النخبة ولا من غيرها ، ربما جاء هذا التحول الذي أطلق البعض عليه هذا المسمى منذ ما قبل انتخابات الرئاسة السابقة بقليل واشتهر به انحناءاً للريح ، لقوة نفوذ رجال الأعمال الكبار الذي وصل إلى القدرة على تشكيل العملية السياسية والقرار السياسي والاقتصادي .. ولانكشاف ضعف هيبة الدولة الذي بدأ منذ أواخر الثمانينات متستراً وراء مظاهر قوة كثيرة وخادعة..

وكأي مجموعة من البشر بين أفرادها تنافس ، فكان من الطبيعي أن يشكل صعود بعض أفرادها كارثةً على البعض الآخر ، والبعض الأخير قوي ، مثله مثل الأول ، وحماية لمصالحه قرر أن يدخل لعبة السياسة وأن يكون قوة معارضة هي الأقوى في مصر حالياً.. وليس ذلك بغريب على التاريخ السياسي المصري المعاصر ، وكانت هناك أحزاب تمثل "الأعيان" والطبقة الأرستقراطية المصرية ، مثل "الأحرار الدستوريين" الذي كان المنافس اللدود لـ"الوفد" لفترات طويلة..

اتفق الجميع على أن "الحراك" هو مصلحة لكل المصريين ، وأنه لا أحد يكره الحرية واتساع هامشها ، من الممكن أن يكون ذلك كذلك في حال إذا توافرت بدائل مدنية عملية قابلة للتنفيذ يختار منها المواطن ما يشاء في صندوق الانتخاب ، والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه ، لا يوجد لدى أي قوة سياسية مصرية أياً كانت أي بديل ، وعليه فإن الظروف جعلت الحراك المنصب أصلاً على عملية الانتخابات غير ذي قيمة.. يا فرحتي بانتخابات تجعلني أفاضل بين أستيكتين!.. ويزيد الطين بلة ضعف الوعي السياسي عامة في صفوف الشارع المصري حتى لدى المثقفين ، لدينا مثقفون لا يعرفون الفرق جيداً بين "الدولة" و "الحكومة" و"النظام" و"الحزب"..إذا كانوا مش عارفين.. حنعرف احنا؟

الحراك في الواقع كان مصلحة لتيار المال السياسي ، الذي لعب على نقطتين ، قوته الإعلامية التي اكتسبها من إنفاقه السخي جداً على فضائيات وصحف أصبحت واسعة الانتشار لتقديمها مستوى مهني "أعلى" وخطاب "لمِّس مع الناس" ، وضعف الدولة ، "ديفوه" ونقطة ضعف يمكن للخصم أن يحسن استغلالها إذا ما لعب عليها..

ومع دولة لا وجود لها في الشارع ، نقل المال السياسي الصراع إلى الشارع ، موَّل حركات احتجاجية وحرك بعض الاعتصامات وحرض عليها ، ويقال أن له علاقة بتكوين النقابات الموازية التي سميت مستقلة ، واتجه إلى شرائح عانت من مظاهر ضعف الدولة مثل العمال والموظفين في شركات القطاع العام التي تم تدميرها بدءاً من الثمانينات ، طبعاً مش علشان سواد عيونهم.. فقط من أجل قدرة هؤلاء على الضغط على النظام وإحراجه بالنضال من أجل حقوق أساسية أو من أجل مميزات .. من أجل العيش الحاف أو من أجل الباتيه..

ليس ذلك فحسب ، لعب تيار المال السياسي أيضاً على إظهار كل مظاهر ضعف الدولة أمام الكبير والصغير ، فساعد ذلك على إضعافها أكثر بزيادة جرأة الصغار أكثر على تحدي القانون "فلان الكبير عمل كذا ومحدش عمله حاجة .. وأنا مش أقل منه".. وما زاد من حجم الجرأة أيضاً هو عنصر المصلحة ، الذي لعب عليه المال السياسي على أحسن ما يكون..

في "مناخ ما فيهش كبير" وتسوده النفعية على كافة الأصعدة تحول المجتمع إلى حالة من الفوضى ، كباراً وصغاراً ، انعكس ذلك على السلوك العادي وحتى على الجريمة التي ازدادت عنفاً بشكل غير مألوف في بلد بطبيعة مصر.. مع وجود من يصنع بطلاً من كل مجرم .. ومع وجود المبرر الجاهز دائماً لكل جريمة أو مصيبة..فوضى قد ينظر لها البعض ويروج لها ، كما في التصريح "السقطة" الشهير للدكتور "علي الدين هلال" الذي وصف فيه "مصر" بأنها "مثل البالوظة في حالة رجرجة"! ورغم سخافة اللغة إلا أن العبارات عكست وبدقة حالة مجتمع سياسياً واقتصادياً واجتماعياً..

أعرف أن البعض سيغضب من تلك السطور الدجة ثقيلة الظل ، لكن ما يهمني توضيحه هو أن ذلك المناخ أفرز واقعاً تأثر به الفن في كافة صوره ، واقع طبقي جديد ما بين "اللي فوق قوي" و "اللي تحت قوي" ، ومقاييس جديدة للوجاهة الاجتماعية والثقافية وحتى الدينية ، وسايره الفن على طول الخط بسبب سيطرة رأس المال المنتج وقوة رأس المال المعارض التي تسيل لعاب المنتجين الذين يريدون الربح التجاري الذي يتطلب بدوره تقديم ما يجذب الناس أكثر..

كان من الممكن أن يلهم الواقع الجديد -والسلبي جداً- صناع الفن بأفكار جديدة في الموسيقى والدراما ، خاصةً في ظل فرصة لم تتح لأجيال سابقة بالانفتاح الثقافي على العالم الذي أعطى أفكاراً وحيلاً جديدة لصناع الفن في مصر ، مع بدء قبول السوق لبعض التنوع دون أن يسود لون على غيره ، كان من الممكن أن يلهمهم بأفكار أعمال تكشف ، وتوضح ، وتنقد ، وتحرض على التفكير دون خطابية وشعارات جوفاء .. لكن قوة رأس المال جعلت الفنون الجماهيرية في مصر تتأثر بالسلب ، وطالها ما طال كل الناس من أذى الحراك وسنينه..
*الصورة لقطة من فيلم "هي فوضى" من موقع "جروبك"..

No comments: