Monday, September 03, 2012

عن "الحدوتة" أتكلم..

جزء كبير من علاقتنا كمتفرجين بأي فيلم أو مسلسل يكمن في قصة الفيلم أو المسلسل ، أو "الحدوتة" التي تدور حولها أحداث أي منهما.. أكثر ربما من أي شيء آخر.. يستوي في ذلك المسلسل والفيلم .. على الأقل هنا..

وتعتبر "الحدوتة" جزء من تقييمنا لأي فيلم ، بل تشكل معظم تقييمنا لذلك الفيلم أكثر من عناصره الفنية الأخرى من صوت وإضاءة وتمثيل ، وحتى مما يمكن أن ترمز له أحداث القصة .. الفيلم عندنا باختصار "قصة" ، أي فيلم لا قصة له لا يعد فيلماً محترماً.. كما يظهر في تعبيرنا الدارج "الفيلم دة قصة ولا مناظر"..وأول ما نسأل عنه في أي فيلم هو ملخص القصة ثم يأتي كل شيء بعد ذلك..

عن نفسي أرى أننا نظلم الأفلام عندما نختصرها في مجرد قصة .. بداية ووسط ونهاية وحوار بين الشخصيات "فلان قابل علان وترتان مش عارف إيه ....الخ".. وإلا فما الفرق بينها وبين القصة أو الرواية التي تقرأها.. الدراما هي الحركة ، والحركة في السينما مدعومة بالصوت والصورة والضوء والضوء والظل والأداء التمثيلي وأشياء أخرى وليست قاصرةً فقط على جمل حوارية.. حتى أن بعض النقاد يرون أن أنه كلما قلت جمل الحوار في فيلم سينمائي كلما كان الفيلم أفضل.. كما أنه في السينما لا يشترط أن تكون القصة كما نعرفها وأن تبدأ وتستمر وتنتهي كما نريد .. من الوارد أن ينهي المؤلف والسيناريست الفيلم بنهاية صادمة أو غير متوقعة كجرس إنذار أو علامة استفهام ، أو بنهاية مفتوحة تحتمل كل الاحتمالات .. ومن الوارد ألا يدور الفيلم حول قصة بصورتها الروائية في أذهاننا ، بل قد يدور حول موقف ما أو حالة ما ، كما في حالة فيلم "بين السماء والأرض" الذي أخرجه "صلاح أبو سيف" والذي تدور معظم أحداثه عن مجموعة من الناس يعلقون في مصعد..

في التليفزيون تصبح الحدوتة هي سيد الموقف ، وتصبح أهم من أي شيء آخر في المسلسل ، بعبارة أخرى ، في المسلسل التليفزيوني يجد المؤلف أمامه مساحة أكبر من الوقت ليفرش عليها قصته التي قد يصعب اختزالها وتركيزها في ساعتين فقط كما في حالة الفيلم السينمائي.. القصة التي تقوم كل عناصر المسلسل الأخرى بالتخديم عليها وتغطية عيوبها بشكل أكبر مما يحدث في السينما.. بل من الممكن أن يبلع المشاهد إخراجاً أشبه بإخراج مباريات كرة القدم إذا ما وجد في قصة المسلسل وأحداثها ما يشده.. وصعوبة التحدي هنا تكمن في بناء حدوتة قوية متماسكة تكفي لإبقاء المشاهد أطول فترة ممكنة أمام المسلسل ، حتى فقط لمجرد معرفة ما سينتهي عليه المسلسل الممل والطويل طول كوبري 6 أكتوبر..

والحدوتة هي الأخرى فيها صنعة.. من الممكن أن يكتب ألف شخص ألف قصة عن نفس الموضوع ، لكن طريقة عرض فلان تختلف عن طريقة عرض علان ، وحرفة فلان في سرد الأحداث والتنقل من مرحلة لأخرى تختلف عن تلك لدى علان، وإجادة فلان لعمل حبكات متقنة ومنطقية أكثر بكثير من علان ، تلك الصنعة التي جعلت كتاب السيناريو في المسلسلات طبقات وفئات ، ويصبح وجودها أو غيابها عاملاً حاسماً في تفوق دراما بلد على دراما بلد آخر.. وعنصر الصنعة والبعد الجمالي في الحدوتة ، كما في غيرها ، عامل جذب كبير لجمهور المسلسلات ، ومن الممكن جداً ، كما في بعض المسلسلات التركية ، أن يبقى المشاهد متعلقاً بمسلسل فقط لأن صنعة كتابة الحدوتة فيه أفضل من مسلسلات مصرية وسورية ولبنانية أخرى حتى لو كانت تلك الحدوتة بلا أي مضمون أو قيمة من أي نوع..

والحواديت عندي كمشاهد غير متخصص أنواع ، ومن ضمن تقسيماتها لدي تقسيمها بحسب ما تشبهه في فنون أخرى ، هناك الحدوتة المسرحية المفرطة في طول ورمزية جمل الحوار والأحداث والنهاية لدرجة تشعرك أنك أمام مسرحية لا مسلسل ، وهناك الحدوتة السينمائية المعتمدة على الحركة وسرعة الإيقاع كما لو كنت تشاهد فيلماً ، وفي بعض الأحيان يكون ذلك أسرع بكثير مما اعتاد عليه مشاهد التليفزيون ، وهناك الحدوتة الروائية التي تشبه كثيراً الرواية في طريقة كتابتها وإيقاعها ، ويصبح الحوار لا الأحداث وحدة بنائها ، بعكس الحدوتة الأقرب للقصة التقليدية أو السرد القصصي التي يصبح فيها الحدث لا الحوار وحدة البناء ، وهناك الحدوتة الصحفية التي تشبه قصص صفحات الحوادث.. وتعد لدى كثيرين الأردأ بين كل ما سبق.. ما عزز تلك التقسيمة هو أن العديد من كتاب السيناريو للدراما التليفزيونية جاءوا من خلفيات مختلفة ، منهم من كان صحفياً ومنهم من كان قاصاً ومنهم من كتب للسينما ومنهم من كان كاتباً مسرحياً.. ولكل فن وتخصص مزايا وعيوب بحسب ما هو مقبول في التليفزيون وما هو مرفوض.. ويبقى لمشاهد التليفزيون الحق في أن يشاهد مسلسلاً تليفزيونياً ، لا شيئاً آخر والاسم مسلسل.. كما حدث ويحدث كثيراً..

لماذا كل ذلك الحنجوري الرخم؟

فيمَ تمكنت من متابعته من دراما خلال السنوات الخمس أو الست الأخيرة وجدت أن المسلسلات لدينا تطورت تقنياً ، كاميرات وزوايا تصوير وإخراج سينمائي وأشياء جلبها مخرجو السينما معهم إلى التليفزيون ، أما الحدوتة فهي منطلقة إلى الخلف ، بعض المسلسلات كانت مباشرة لدرجة مقززة تشعرك أن تقرأ منشوراً سياسياً ، وبعضها الآخر مبني على حواديت مستهلكة ومملة تتناول نفس مواضيع نعرفها من قديم الأزل وبنفس الطريقة ، ومعظمها خلا من الابتكار ، ولم يتطرق لموضوعات وزوايا وأماكن قريبة من قلب الناس وعقولهم ، ويفتقد لحرفة الحكي وكتابة جمل حوارية لا تشعر المشاهد بالملل ولا تستمطر سخريته ، حتى التنوع الفكري في تناول المواضيع من زوايا عدة ومن وجهات نظر مختلفة افتقدناه لدرجة تشعرني كثيراً أن الدراما التليفزيونية المصرية واقعة تحت سيطرة تيارات سياسية معينة منذ عقود دون ترك المساحة لتيارات أخرى لأن تتكلم من نافذة الدراما بصفتها الفن الأكثر تأثيراً في الوقت الحالي على عقل الناس ووجدانهم.. كل ذلك يبقى ترهات من وجهة نظر صناع الدراما الحاليين ومنتجيها ، فلديهم سوق يريدون التوزيع فيه ، وصحفيون وتيارات وحركات وجماعات وناشطين بل ونظم سياسية يجب نفاقهم وإرضاؤهم بأي وسيلة ، إما بالمدح أو عدم الاستفزاز ، ونجم أو نجمة يجب أن يحصل/تحصل على برستيجه/ـا كاملاً بما أن التوزيع يتم على اسمه أو اسمها.. ياكلوا حلاوة ياكلوا جاتوه .. ياكلوا كل اللي يحبوه .. بغض النظر عن "التسويس" الذي يحصل عليه المشاهد.. ناهيك عن الإعلانات ، ثم الإعلانات ، ثم الإعلانات (على غرار "الأنجاجيه ، ثم الأنجاجيه ، ثم الأنجاجيه" مع الاعتذار للراحل "شفيق جلال")..

حواديت أكثر ابتكاراً ، أمتن بنيةً ، أقوى صنعةً ، أكثر جاذبية ، يمكنها إذن أن تجعل أفلامنا السينمائية أكثر جاذبية وأن تعيد للدراما التليفزيونية المصرية ما كان لها من مجد قبل فوضى المنتج المنفذ في تسعينيات القرن الماضي.. الكرة في ملعب كتاب الحواديت ، وفي ملعب مشاهديها أيضاً .. دمتم بكل ود..
* الصورة من مدونة الزميل "محمد الشيمي"..

No comments: